Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 1, Ayat: 5-5)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو جعفر : وتأويـل قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } : لك اللهم نـخشع ، ونذلّ ، ونستكين ، إقراراً لك يا ربنا بـالربوبـية لا لغيرك . كما : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عبـاس ، قال : قال جبريـل لـمـحمد صلى الله عليه وسلم : قل يا مـحمد : إياك نعبد ، إياك نوحد ونـخاف ونرجو يا ربَّنا لا غيرك . وذلك من قول ابن عبـاس بـمعنى ما قلنا ، وإنـما اخترنا البـيان عن تأويـله بأنه بـمعنى نـخشع ، ونذل ، ونستكين ، دون البـيان عنه بأنه بـمعنى نرجو ونـخاف ، وإن كان الرجاء والـخوف لا يكونان إلا مع ذلة لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة ، وأنها تسمي الطريقَ الـمُذَلَّل الذي قد وطئته الأقدام وذللته السابلة : مُعَبَّداً . ومن ذلك قول طَرَفة بن العبد : @ تُبـارِي عِتَاقاً ناجياتٍ وأتْبَعَتْ وَظِيفـاً وَظِيفـاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ @@ يعنـي بـالـمَوْر : الطريق ، وبـالـمعبَّد : الـمذلّل الـموطوء . ومن ذلك قـيـل للبعير الـمذلل بـالركوب فـي الـحوائج : مُعَبَّد ، ومنه سمي العبد عبدا لذلّته لـمولاه . والشواهد من أشعار العرب وكلامها علـى ذلك أكثر من أن تـحصى ، وفـيـما ذكرناه كفـاية لـمن وفق لفهمه إن شاء الله تعالـى . القول فـي تأويـل قوله تعالـى : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . قال أبو جعفر : ومعنى قوله : { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وإيَّاك ربنا نستعين علـى عبـادتنا إياك وطاعتنا لك وفـي أمورنا كلها لا أحداً سواك ، إذ كان من يكفر بك يستعين فـي أموره معبوده الذي يعبده من الأوثان دونك ، ونـحن بك نستعين فـي جميع أمورنا مخـلصين لك العبـادة . كالذي : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنـي بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عبـاس : { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال : إياك : نستعين علـى طاعتك وعلـى أمورنا كلها . فإن قال قائل : وما معنى أمر الله عبـاده بأن يسألوه الـمعونة علـى طاعته ؟ أوَ جائز وقد أمرهم بطاعته أن لا يعينهم علـيها ؟ أم هل يقول قائل لربه : إياك نستعين علـى طاعتك ، إلا وهو علـى قوله ذلك معان ، وذلك هو الطاعة ، فما وجه مسألة العبد ربه ما قد أعطاه إياه ؟ قـيـل : إن تأويـل ذلك علـى غير الوجه الذي ذهبت إلـيه وإنـما الداعي ربه من الـمؤمنـين أن يعينه علـى طاعته إياه ، داعٍ أن يعينه فـيـما بقـي من عمره علـى ما كلفه من طاعته ، دون ما قد تَقَضَّى ومضى من أعماله الصالـحة فـيـما خلا من عمره . وجازت مسألة العبد ربَّه ذلك لأن إعطاء الله عبده ذلك مع تـمكينه جوارحه لأداء ما كلفه من طاعته وافترض علـيه من فرائضه ، فضل منه جل ثناؤه تفضَّل به علـيه ، ولطف منه لطف له فـيه ولـيس فـي تركه التفضل علـى بعض عبـيده بـالتوفـيق مع اشتغال عبده بـمعصيته وانصرافه عن مـحبته ، ولا فـي بسطه فضله علـى بعضهم مع إجهاد العبد نفسه فـي مـحبته ومسارعته إلـى طاعته ، فساد فـي تدبـير ولا جور فـي حكم ، فـيجوز أن يجهل جاهل موضع حكم الله ، وأمره عبده بـمسألته عونه علـى طاعته . وفـي أمر الله جل ثناؤه عبـاده أن يقولوا : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بـمعنى مسألتهم إياه الـمعونة علـى العبـادة أدل الدلـيـل علـى فساد قول القائلـين بـالتفويض من أهل القدر ، الذين أحلوا أن يأمر الله أحداً من عبـيده بأمر أو يكلفه فرض عمل إلا بعد إعطائه الـمعونة علـى فعله وعلـى تركه . ولو كان الذي قالوا من ذلك كما قالوا لبطلت الرغبة إلـى الله فـي الـمعونة علـى طاعته ، إذ كان علـى قولهم مع وجود الأمر والنهي والتكلـيف حقاً واجبـاً علـى الله للعبد إعطاؤه الـمعونة علـيه ، سأله عبده ذلك أو ترك مسألة ذلك بل ترك إعطائه ذلك عندهم منه جور . ولو كان الأمر فـي ذلك علـى ما قالوا ، لكن القائل : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إنـما يسأل ربه أن لا يجور . وفـي إجماع أهل الإسلام جميعاً علـى تصويب قول القائل : اللهم إنا نستعينك وتـخطئتهم قول القائل : اللهم لا تـجر علـينا ، دلـيـل واضح علـى خطأ ما قال الذين وصفت قولهم ، إذْ كان تأويـل قول القائل عندهم : اللهم إنا نستعينك ، اللهم لا تترك معونتنا التـي تَرْكُهَا جور منك . فإن قال قائل : وكيف قـيـل : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فقدم الـخبر عن العبـادة ، وأخرت مسألة الـمعونة علـيها بعدها ؟ وإنـما تكون العبـادة بـالـمعونة ، فمسألة الـمعونة كانت أحق بـالتقديـم قبل الـمعان علـيه من العمل والعبـادة بها . قـيـل : لـما كان معلوماً أن العبـادة لا سبـيـل للعبد إلـيها إلا بـمعونة من الله جل ثناؤه ، وكان مـحالاً أن يكون العبد عابداً إلا وهو علـى العبـادة معانٌ ، وأن يكون معاناً علـيها إلا وهو لها فـاعل كان سواء تقديـم ما قدم منهما علـى صاحبه ، كما سواء قولك للرجل إذا قضى حاجتك فأحسن إلـيك فـي قضائها : قضيت حاجتـي فأحسنت إلـيَّ ، فقدمت ذكر قضائه حاجتك . أو قلت : أحسنت إلـيّ فقضيت حاجتـي ، فقدمت ذكر الإحسان علـى ذكر قضاء الـحاجة لأنه لا يكون قاضياً حاجتك إلا وهو إلـيك مـحسن ، ولا مـحسناً إلـيك إلا وهو لـحاجتك قاض . فكذلك سواء قول القائل : اللهم إنا إياك نعبد فأعنّا علـى عبـادتك ، وقوله : اللهم أعنا علـى عبـادتك فإنا إياك نعبد . قال أبو جعفر : وقد ظن بعض أهل الغفلة أن ذلك من الـمقدَّم الذي معناه التأخير ، كما قال امرؤ القـيس : @ ولَوْ أَنَّ ما أسْعَى لأدنَى مَعِيشَةٍ كَفـانِـي ولَـمْ أَطْلُبْ قَلِـيـلٌ مِنَ الـمَالِ @@ يريد بذلك : كفـانـي قلـيـل من الـمال ولـم أطلب كثـيراً . وذلك من معنى التقديـم والتأخير ، ومن مشابهة بـيت امرىء القـيس بـمعزلٍ من أجل أنه قد يكفـيه القلـيـل من الـمال ويطلب الكثـير ، فلـيس وجود ما يكفـيه منه بـموجب له ترك طلب الكثـير . فـيكون نظير العبـادة التـي بوجودها وجود الـمعونة علـيها ، وبوجود الـمعونة علـيها وجودها ، ويكون ذكر أحدهما دالاًّ علـى الآخر ، فـيعتدل فـي صحة الكلام تقديـم ما قدم منهما قبل صاحبه أن يكون موضوعاً فـي درجته ومرتبـاً فـي مرتبته . فإن قال : فما وجه تكراره : { إِيَّاكَ } مع قوله : { نَسْتَعِينُ } وقد تقدم ذلك قبل نعبد ؟ وهلا قـيـل : إياك نعبد ونستعين ، إذْ كان الـمخبر عنه أنه الـمعبود هو الـمخبر عنه أنه الـمستعان ؟ قـيـل له : إن الكاف التـي مع « إيّا » ، هي الكاف التـي كانت تتصل بـالفعل ، أعنـي بقوله : { نَعْبُدُ } لو كانت مؤخرة بعد الفعل . وهي كناية اسم الـمخاطب الـمنصوب بـالفعل ، فكثُرِّتْ ب « إيَّا » متقدمة ، إذ كانت الأسماء إذا انفردت بأنفسها لا تكون فـي كلام العرب علـى حرف واحد ، فلـما كانت الكاف من « إياك » هي كناية اسم الـمخاطب التـي كانت تكون كافـا وحدها متصلة بـالفعل إذا كانت بعد الفعل ، ثم كان حظها أن تعاد مع كل فعل اتصلت به ، فـيقال : اللهم إنا نعبدك ونستعينك ونـحمدك ونشكرك وكان ذلك أفصح فـي كلام العرب من أن يقال : اللهم إنا نعبدك ونستعين ونـحمد كان كذلك إذا قدمت كناية اسم الـمخاطب قبل الفعل موصولة ب « إيَّا » ، كان الأفصح إعادتها مع كل فعل . كما كان الفصيح من الكلام إعادتها مع كل فعل ، إذا كانت بعد الفعل متصلة به ، وإن كان ترك إعادتها جائزاً . وقد ظن بعض من لـم يـمعن النظر أن إعادة « إياك » مع « نستعين » بعد تقدمها فـي قوله : { إياكَ نَعْبُدُ } بـمعنى قول عديّ بن زيد العبـادي : @ وجاعلُ الشَّمْس مِصْراً لا خَفَـاءَ بهِ بـينَ النَّهارِ وبـينَ اللَّـيْـل قَدْ فَصَلاَ @@ وكقول أعشى همدان : @ بـينَ الأشَجِّ وبـينَ قَـيْسٍ بـاذِخٌ بَخْ بَخْ لوَالدِه وللـمَوْلُودِ @@ وذلك جهل من قائله من أجل أن حظ « إياك » أن تكون مكرّرة مع كل فعل لـما وصفنا آنفـاً من العلة ، ولـيس ذلك حكم « بـين » لأنها لا تكون إذا اقتضت اثنـين إلاّ تكريراً إذا أعيدت ، إذ كانت لا تنفرد بـالواحد . وأنها لو أفردت بأحد الاسمين فـي حال اقتضائها اثنـين كان الكلام كالـمستـحيـل وذلك أن قائلاً لو قال : الشمس قد فصلت بـين النهار ، لكان من الكلام خـلْفـاً لنقصان الكلام عما به الـحاجة إلـيه من تـمامه الذي يقتضيه « بـين » . ولو قال القائل : « اللهم إياك نعبد » لكان ذلك كلاماً تاماً . فكان معلوماً بذلك أن حاجة كل كلـمة كانت نظيرة « إياك نعبد » إلـى « إياك » كحاجة « نعبد » إلـيها ، وأن الصواب أن تكرّر معها « إياك » ، إذ كانت كل كلـمة منها جملة خبر مبتدأ ، وبـينا حكم مخالفة ذلك حكم « بـين » فـيـما وفق بـينهما الذي وصفنا قوله .