Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 68-68)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول تعالـى ذكره : { وَرَبُّكَ } يا مـحمد { يَخْـلُقُ ما يَشاءُ } أن يخـلقه ، { ويَخْتارُ } لولايته الـخِيَرة من خـلقه ، ومن سبقت له منه السعادة . وإنـما قال جلّ ثناؤه { ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } والـمعنى : ما وصفت ، لأن الـمشركين كانوا فـيـما ذُكِر عنهم يختارون أموالَهم ، فـيجعلونها لآلهتهم ، فقال الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم : وربك يا مـحمد يخـلق ما يشاء أن يخـلقه ، ويختار للهداية والإيـمان والعمل الصالـح من خـلقه ، ما هو فـي سابق علـمه أنه خِيَرَتهم ، نظير ما كان من هؤلاء الـمشركين لآلهتهم خيار أموالهم ، فكذلك اختـياري لنفسي . واجتبـائي لولايتـي ، واصطفـائي لـخدمتـي وطاعتـي ، خيارَ مـملكتـي وخـلقـي . وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل . ذكر من قال ذلك : حدثنـي مـحمد بن سعد ، قال : ثنـي أبـي ، قال : ثنِـي عمي ، قال : ثنـي أبـي ، عن أبـيه ، عن ابن عبـاس ، قوله : { وَرَبُّكَ يَخْـلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } قال : كانوا يجعلون خَيْر أموالهم لآلهتهم فـي الـجاهلـية . فإذا كان معنى ذلك كذلك ، فلا شكّ أن « ما » من قوله : { ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } فـي موضع نصب ، بوقوع يختار علـيها ، وأنها بـمعنى الذي . فإن قال قائل : فإن كان الأمر كما وصفت ، من أن « ما » اسم منصوب بوقوع قوله { يَخْتارُ } علـيها ، فأين خبر كان ؟ فقد علـمت أن ذلك إذا كان كما قلت ، أن فـي كان ذِكْراً من ما ، ولا بدّ لكان إذا كان كذلك من تـمام ، وأين التـمام ؟ قـيـل : إن العرب تـجعل لـحروف الصفـات إذا جاءت الأخبـار بعدها أحياناً ، أخبـاراً ، كفعلها بـالأسماء إذا جاءت بعدها أخبـارها . ذَكر الفرّاء أن القاسمَ بن مَعْن أنشده قول عنترة : @ أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كانَ ذا مِنْكِ قبلَ الـيوْمِ مَعْرُوفُ @@ فرفع معروفـا بحرف الصفة ، وهو لا شكّ خبر لذا ، وذُكر أن الـمفَضَّل أنشده ذلك : @ لوْ أنَّ ذا مِنْكِ قبلَ الـيَوْمِ مَعْرُوفُ @@ ومنه أيضا قول عمر بن أبـي ربـيعة : @ قُلْتُ أجِيبِـي عاشِقا بِحُبِّكُمْ مُكَلَّفُ فِـيها ثَلاث كالدُّمَى وكاعِبٌ ومُسْلِفُ @@ فمكلَّف من نعت عاشق ، وقد رفعه بحرف الصفة ، وهو البـاء ، فـي أشبـاه لـما ذكرنا بكثـير من الشواهد ، فكذلك قوله : { ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } رُفعت الـخِيَرة بـالصفة ، وهي لهم ، وإن كانت خبراً لـما ، لـما جاءت بعد الصفة ، ووقعت الصفة موقع الـخبر ، فصار كقول القائل : كان عمرو أبوه قائم ، لا شكّ أن قائماً لو كان مكان الأب ، وكان الأب هو الـمتأخر بعده ، كان منصوبـاً ، فكذلك وجه رفع الـخِيَرة ، وهو خبر لـما . فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون « ما » فـي هذا الـموضع جَحْداً ، ويكون معنى الكلام : وربك يخـلق ما يشاء أن يخـلقه ، ويختار ما يشاء أن يختاره ، فـيكون قوله { ويخْتارُ } نهاية الـخبر عن الـخـلق والاختـيار ، ثم يكون الكلام بعد ذلك مبتدأ بـمعنى : لـم تكن لهم الـخيرة : أي لـم يكن للـخـلق الـخِيَرة ، وإنـما الـخِيَرة لله وحده ؟ قـيـل : هذا قول لا يخفـى فساده علـى ذي حِجا ، من وجوه ، لو لـم يكن بخلافه لأهل التأويـل قول ، فكيف والتأويـل عمن ذكرنا بخلافه فأما أحد وجوه فَساده ، فهو أن قوله : { ما كانَ لَهُمُ الـخيرَةُ } لو كان كما ظنه من ظنه ، من أن « ما » بـمعنى الـجحد ، علـى نـحو التأويـل الذي ذكرت ، كان إنـما جحد تعالـى ذكره ، أن تكون لهم الـخِيَرة فـيـما مضى قبل نزول هذه الآية ، فأما فـيـما يستقبلونه فلهم الـخِيَرة ، لأن قول القائل : ما كان لك هذا ، لا شكّ إنـما هو خبر عن أنه لـم يكن له ذلك فـيـما مضى . وقد يجوز أن يكون له فـيـما يستقبل ، وذلك من الكلام لا شكّ خُـلْف . لأن ما لـم يكن للـخـلق من ذلك قديـماً ، فلـيس ذلك لهم أبداً . وبعد ، لو أريد ذلك الـمعنى ، لكان الكلام : فلـيس . وقـيـل : وربك يخـلق ما يشاء ويختار ، لـيس لهم الـخيرة ، لـيكون نفـيا عن أن يكون ذلك لهم فـيـما قبلُ وفـيـما بعد . والثانـي : أن كتاب الله أبـين البـيان ، وأوضح الكلام ، ومـحال أن يوجد فـيه شيء غير مفهوم الـمعنى ، وغير جائز فـي الكلام أن يقال ابتداء : ما كان لفلان الـخِيَرة ، ولـما يتقدم قبل ذلك كلام يقتضي ذلك فكذلك قوله : { ويَخْتارُ ، ما كانَ لَهُمُ الـخِيَرةُ } ولـم يتقدم قبله من الله تعالـى ذكره خبر عن أحد ، أنه ادّعى أنه كان له الـخِيَرة ، فـيقال له : ما كان لك الـخِيَرة ، وإنـما جرى قبله الـخبر عما هو صائر إلـيه أمر من تاب من شركه ، وآمن وعمل صالـحاً ، وأتبع ذلك جلّ ثناؤه الـخبر عن سبب إيـمان من آمن وعمل صالـحاً منهم ، وأن ذلك إنـما هو لاختـياره إياه للإيـمان ، وللسابق من علـمه فـيه اهتدى . ويزيد ما قلنا من ذلك إبـانة قوله : { وَرَبُّكَ يَعْلَـمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ } فأخبر أنه يعلـم من عبـاده السرائر والظواهر ، ويصطفـي لنفسه ويختار لطاعته من قد علـم منه السريرة الصالـحة ، والعلانـية الرضية . والثالث : أن معنى الـخيرة فـي هذا الـموضع : إنـما هو الـخيرة ، وهو الشيء الذي يختار من البهائم والأنعام والرجال والنساء ، يقال منه : أُعطي الـخيرة والـخِيرَة ، مثل الطِّيرة والطِّيْرَة ، ولـيس بـالاختـيار ، وإذا كانت الـخيرة ما وصفنا ، فمعلوم أن من أجود الكلام أن يقال : وربك يخـلق ما يشاء ، ويختار ما يشاء ، لـم يكن لهم خير بهيـمة أو خير طعام ، أو خير رجل أو امرأة . فإن قال : فهل يجوز أن تكون بـمعنى الـمصدر ؟ قـيـل : لا ، وذلك أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الكلام : وربك يخـلق ما يشاء ويختار كون الـخيرة لهم . وإذا كان ذلك معناه ، وجب أن لا تكون الشرار لهم من البهائم والأنعام وإذا لـم يكن لهم شرار ذلك وجب أن لا يكون لها مالك ، وذلك ما لا يخفـى خطؤه ، لأن لـخيارها ولشرارها أربـابـاً يـملكونها بتـملـيك الله إياهم ذلك ، وفـي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلـى معنى الـمصدر . وقوله سبحانه وتعالـى : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يقول تعالـى ذكره تنزيها لله وتبرئة له ، وعلوّاً عما أضاف إلـيه الـمشركون من الشرك ، وما تـخرّصوه من الكذب والبـاطل علـيه . وتأويـل الكلام : سبحان الله وتعالـى عن شركهم . وقد كان بعض أهل العربـية يوجهه إلـى أنه بـمعنى : وتعالـى عن الذي يشركون به .