Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 94-94)
Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } : يا أيها الذين صدّقوا الله صدّقوا رسوله ، فيما جاءهم به من عند ربهم { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } يقول : إذا سرتم مسيراً لله في جهاد أعدائكم { فَتَبَيَّنُواْ } يقول : فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره ، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره ، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله . { تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ } يقول : ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم ، مظهراً لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم ، { لَسْتَ مُؤْمِناً } فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، يقول : طلب متاع الحياة الدنيا ، فإن عند الله مغانم كثيرة من رزقه وفواضل نعمه ، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فأثابكم بها على طاعتكم إياه ، فالتمسوا ذلك من عنده { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ } يقول : كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلام فقلت له لست مؤمناً فقتلتموه ، كذلك أنتم من قبل ، يعني : من قبل إعزاز الله دينه بتباعه وأنصاره ، تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله بدينه من قومه أن يظهره لهم حذراً على نفسه منهم . وقد قيل : إن معنى قوله : { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ } كنتم كفاراً مثلهم . { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : فتفضل الله عليكم باعزاز دينه بأنصاره وكثرة تباعه . وقد قيل : فمنّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلام . { فَتَبَيَّنُواْ } يقول : فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتله ممن التبس عليكم أمر إسلامه ، فلعلّ ألله أن يكون قد منّ عليه من الإسلام بمثل الذي منّ به عليكم ، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان . { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } يقول : إن الله كان بقتلكم من تقتلون وكفكم عمن تكفون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم { خَبِيراً } يعني : ذا خبرة وعلم به ، يحفظه عليكم وعليهم ، حتى يجازي جيمعكم به يوم القيامة جزاء المحسن بإحسانه والمسيء باساءته . وذكر أن هذه الآية نزلت في سبيل قتيل قتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال : إني مسلم ، أو بعد ما شهد شهادة الحقّ ، أو بعد ما سلم عليهم ، لغنيمة كانت معه أو غير ذلك من ملكه ، فأخذوه منه . ذكر الرواية والآثار بذلك : حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا جرير ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، أن ابن عمر ، قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً ، فلقيهم عامر بن الأضبط ، فحياهم بتحية الإسلام ، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية ، فرماه محلم بسهم فقتله . فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع ، فقال الأقرع : يا رسول الله سُنَّ اليوم وغيِّر غداً ! فقال عيينة : لا والله حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي ! فجاء محلم في بردين ، فجلس بين يدي رسول الله ليستغفر له ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا غَفَرَ اللّهُ لَك " فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت به سابعة حتى مات ودفنوه ، فلفظته الأرض . فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فقال : " إنَّ الأرْضَ تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِنْ صَاحِبِكُمْ ، وَلَكِنَّ اللّهَ جَلَّ وَعَزَّ أرَادَ أنْ يَعِظَكُمْ " ثم طرحوه بين صَدَفَيْ جبل ، وألقوا عليه من الحجارة ، ونزلت : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } … الآية . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي . فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم ، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعُود له معه مُتَيِّع له ووَطْب من لبن . فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان وبينه وبينه ، فقتله وأخذ بعيره ومتيّعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } … الآية . حدثني هارون بن إدريس الأصمّ ، قال : ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي حدرد الأسلمي ، عن أبيه بنحوه . حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لحق ناس من المسلمين رجلاً في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم ! فقتلوه وأخذوا تلك الغنيمة ، فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } تلك الغُنيْمة . حدثنا الحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، بنحوه . حدثني سعيد بن الربيع ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو سمع عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لحق المسلمون رجلاً ، ثم ذكر مثله . حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غنم له ، فسلم عليهم ، فقالوا : ما سلم عليكم إلا ليتعوّذ منكم ! فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } … إلى آخر الآية . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله . حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يتكلم بالإسلام ويؤمن بالله والرسول ، ويكون في قومه ، فإذا جاءت سرّية محمد صلى الله عليه وسلم أخبر بها حيه يعني قومه ففرّوا ، وأقام الرجل لا يخاف المؤمنين من أجل أنه على دينهم حتى يلقاهم ، فيلقى إليهم السلام ، فيقول المؤمنون : لست مؤمناً ! وقد ألقى السلام ، فيقتلونه ، فقال الله جلّ وعزّ : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } … إلى : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } يعني : تقتلونه إرادة أن يحلّ لكم ماله الذي وجدتم معه ، وذلك عرض الحياة الدنيا ، فإن عندي مغانم كثيرة ، فالتمسوا من فضل الله . وهو رجل اسمه مرداس جلا قومه هاربين من خيل بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رجل من بني ليث اسمه قليب ، ولم يجامعهم إذا لقيهم مرداس ، فسلم عليهم فقتلوه ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته وردّ إليهم ماله ونهى المؤمنين عن مثل ذلك . حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } … الآية ، قال : هذا الحديث في شأن مرداس رجل من غطفان ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً عليهم غالب الليثي إلى أهل فدك ، وبه ناس من غطفان وكان مرداس منهم ، ففرّ أصحابه ، فقال مرداس : إني مؤمن وإني غير متبعكم ! فصَّبحته الخيل غدوة ، فلما لقوه سلم عليهم مرداس ، فتلقوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ، وأخذوا ما كان معه من متاع ، فأنزل الله جلّ وعزّ في شأنه : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } لأن تحية المسلمين السلام ، بها يتعارفون ، وبها يحيـى بعضهم بعضاً . حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيا } . … الآية . قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة ابن زيد إلى بني ضمرة ، فلقوا رجلاً منهم يُدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر ، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل ، واتبعه أسامة ، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ، ثم أقبل إليهم فقال : السلام عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ! فشدّ عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته . وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبّ أن يثني عليه خيراً ، ويسأل عنه أصحابه ، فلما رجعوا لم يسألهم عنه ، فجعل القوم يحدّثون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون : يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فشدّ عليه فقتله ! وهو معرض عنهم . فلما أكثروا عليه ، رفع رأسه إلى أسامة فقال : " كَيْفَ أنْتَ وَلا إلَهَ إلاَّ اللّهُ " ؟ قال : يا رسول الله إنما قالها متعوّذاً ، تعوّذ بها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَلا شقَقَتْ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ إلَيْهِ ؟ " قال : يا رسول الله إنما قلبه بَضْعَة من جسده . فأنزل الله عزّ وجلّ خبر هذا ، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه ، فذلك حين يقول : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } فلما بلغ : { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : فتاب الله عليكم ، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلاً يقول لا إله إلا الله ، بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه . حدثنا الحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قال : بلغني أن رجلاً من المسلمين أغار على رجل من المشركين ، فحمل عليه ، فقال له المشرك : إني مسلم ، أشهد أن لا إله إلا الله ! فقتله المسلم بعد أن قالها ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال للذي قتله : " أَقَتَلْتَهُ وَقَدْ قَالَ لا إله إلا الله ؟ " فقال وهو يعتذر : يا نبيّ الله إنما قالها متعوّذاً وليس كذلك . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ؟ " ثم مات قاتل الرجل فقبر ، فلفظته الأرض ، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يقبروه ، ثم لفظته الأرض ، حتى فعل به ذلك ثلاث مرّات ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الأرْضَ أبَتْ أنْ تَقْبَلَهُ فَألْقوهُ فِي غارٍ مِنَ الغِيرَانِ " قال معمر : وقال بعضهم : إن الأرض تقبل من هو شرّ منه ، ولكن الله جعله لكم عبرة . حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : أن قوماً من المسلمين لقوا رجلاً من المشركين في غُنَيْمة له ، فقال : السلام عليكم إني مؤمن ! فظنوا أنه يتعوّذ بذلك ، فقتلوه ، وأخذوا غنيمته . قال : فأنزل الله جلّ وعزّ : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } تلك الغنيمة { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ } . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، قوله : { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ } قال : خرج المقداد بن الأسود في سرية بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فمرّوا برجل في غُنَيمة له ، فقال : أني مسلم ! فقتله المقداد . فلما قدموا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } قال : الغنيمة . حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء فذكر من قصة أبي الدرداء نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد ، وقد ذكرت في تأويل قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] ، ثم قال في الخبر ـ : ونزل الفرقان : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] فقرأ حتى بلغ : { لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } غنمه التي كانت عرض الحياة الدنيا ، { فَعِنْدَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } خير من تلك الغنم ، إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قال : راعي غنم ، لقيه نفر من المؤمنين ، فقتلوه وأخذوا ما معه ، ولم يقبلوا منه : « السلام عليكم ، فإني مؤمن » . حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } قال : حرّم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله لست مؤمناً ، كما حرّم عليهم الميتة ، فهو آمن على ماله ودمه ، ولا تردّوا عليه قوله . واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { فَتَبَيَّنُواْ } فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين : { فَتَبَيَّنُواْ } بالباء والنون من التبين ، بمعنى : التأني والنظر والكشف عنه حتى يتضح . وقرأ ذلك عظم قرّاء الكوفيين : « فَتَثَبَّتُوا » بمعنى التثبت الذي هو خلاف العجلة . والقول عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة المسلمين بمعنى واحد وإن اختلفت بهما الألفاظ ، لأن المتثبت متبين ، والمتبين متثبت ، فبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة في ذلك . واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ } فقرأ ذلك عامة قرّاء المكيين والمدنيين والكوفيين « السَّلَمَ » بغير ألف ، بمعنى الاستسلام ، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين : { ٱلسَّلَـٰمُ } بألف ، بمعنى التحية . والصواب من القراءة في ذلك عندنا : « لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السَّلَمَ » بمعنى : من استسلم لكم مذعناً لله بالتوحيد مقرّاً لكم بملتكم . وإنما اخترنا ذلك لاختلاف الرواية في ذلك ، فمن راوٍ روى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحقّ وقال : إني مسلم ومن راو روى أنه قال : السلام عليكم ، فحياهم تحية الإسلام ، ومن راو روى أنه كان مسلماً بإسلام قد تقدم منه قبل قتلهم إياه . وكل هذه المعاني يجمعها السلم ، لأن المسلم مستسلم ، والمحِّيـي بتحية الإسلام مستسلم ، والمتشهد شهادة الحقّ مستسلم لأهل الإسلام ، فمعنى السَّلم جامع جميع المعاني التي رويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الآية ، وليس كذلك في السلام ، لأن السلام لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية ، فلذلك وصفنا السَّلم بالصواب . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ } فقال بعضهم : معناه : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلام مستخفياً في قومه بدينه خوفاً على نفسه منهم ، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذراً على أنفسكم منهم ، فمنّ الله عليكم . ذكر من قال ذلك : حدثنا الحسن بن يحيـى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ } تكتمون إيمانكم في المشركين . وقال آخرون : معنى ذلك : كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السلم كافراً كنتم كفاراً ، فهداه كما هداكم . ذكر من قال ذلك : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } كفاراً مثله ، { فَتَبَيَّنُواْ } . وأولى هذين القولين بتأويل الآية القول الأوّل ، وهو قول من قال : كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمين بين أظهرهم ، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيماً بين أظهر قومه من المشركين ، مستخفياً بدينه منهم . وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله عزّ ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلام ، ولم يقد به قاتلوه للبس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين ، وظنهم أنه ألقى السلام إلى المؤمنين تعوّذاً منهم ، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركاً ، فيقال : كما كان كافراً كنتم كفاراً بل لا وجه لذلك ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يعاتب أحداً من خلقه على قتل محارب لله ولرسوله من أهل الشرك بعد إذنه له بقتله . واختلف أيضاً أهل التأويل في تأويل قوله : { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } فقال بعضهم : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتمونه من أهل الشرك . ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير : { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } فأظهر الإسلام . وقال آخرون : معنى ذلك : فمنّ الله عليكم أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلام طلب عرض الحياة الدنيا بالتوبة من قتلكم إياه . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ : { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } يقول : تاب الله عليكم . وأولى التأويلين في ذلك بالصواب التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير ، لما ذكرنا من الدلالة على أن معنى قوله : { كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ } ما وصفنا قبل ، فالواجب أن يكون عقيب ذلك : { فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم بإظهار دينه وإعزاز أهله ، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به ، من توحيده وعبادته ، حذراً من أهل الشرك . ]