Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-3)

Tafsir: Ǧāmiʿ al-bayān ʿan taʾwīl āy al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يعني بقوله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } يقول : إنا حكمنا لك يا محمد حكماً لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك ، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر ، لتشكر ربك ، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم ، وفتحه ما فتح لك ، ولتسبحه وتستغفره ، فيغفر لك بفعالك ذلك ربك ، ما تقدّم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح ، وما تأخَّر بعد فتحه لك ذلك ما شكرته واستغفرته . وإنما اخترنا هذا القول فـي تأويـل هذه الآية لدلالة قول الله عزّ وجلّ { إذَا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْح ، ورأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوَّاباً } على صحته ، إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة ، وأن يستغفره ، وأعلمه أنه توّاب على من فعل ذلك ، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تعالى ذكره : { لَيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ } إنما هو خبر من الله جلّ ثناؤه نبيه عليه الصلاة والسلام عن جزائه له على شكره له ، على النعمة التي أنعم بها عليه من إظهاره له ما فتح ، لأن جزاء الله تعالى عباده على أعمالهم دون غيرها . وبعد ففي صحة الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم حتى ترِم قدماه ، فقيل له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : " أفَلا أكُونُ عَبْداً شَكُوراً ؟ " ، الدلالة الواضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول ، وأن الله تبارك وتعالى ، إنما وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة ، فتح ما فتح عليه ، وبعده على شكره له ، على نعمه التي أنعمها عليه . وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم : " إنّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأتُوبُ إلَيْهِ فِي كُلّ يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ " ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى نبيه أنه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا ، لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ، ولا لاستغفار نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ربه جلّ جلاله من ذنوبه بعدها معنى يعقل ، إذ الاستغفار معناه : طلب العبد من ربه عزّ وجلّ غفران ذنوبه ، فإذا لم يكن ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى ، لأنه من المحال أن يقال : اللهمّ اغفر لي ذنباً لم أعمله . وقد تأوّل ذلك بعضهم بمعنى : ليغفر لك ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر إلى الوقت الذي قال : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ } . وأما الفتح الذي وعد الله جلّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليه ، فإنه فيما ذُكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية . وذُكر أن هذه السورة أُنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفة عن الحديبية بعد الهدنة التي جرَت بينه وبين قومه . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } قال : قضينا لك قضاءً مبينا . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } والفتح : القضاء . ذكر الرواية عمن قال : هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي ذكرت : حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا داود ، عن عامر { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } قال : الحديبية . حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } قال : نحرُه بالحديبية وحَلْقُه . حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا أبو بحر ، قال : ثنا شعبة ، قال : ثنا جامع بن شدّاد ، عن عبد الرحمن بن أبي علقمة ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : لما أقبلنا من الحُديبية أعرسنا فنمنا ، فلم نستيقظ إلا بالشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ، قال : فقلنا أيقظوه ، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " افْعَلُوا كمَا كُنْتُمْ تَفْعَلُونَ ، فكذلك من نام أو نسي " قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدناها قد تعلَّق خطامها بشجرة ، فأتيته بها ، فركب فبينا نحن نسير ، إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه اشتدّ عليه فلما سري عنه أخبرنا أنه أُنزل عليه : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } . حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت أبي يحدّث عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، قال : لما رجعنا من غزوة الحديبية ، وقد حيل بيننا وبين نسكنا ، قال : فنحن بين الحزن والكآبة ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ ، وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } ، أو كما شاء الله ، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إليَّ مِنَ الدُّنْيا جَمِيعاً " حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، في قوله : { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } قال : نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية ، وقد حيل بينهم وبين نسكهم ، فنحر الهدي بالحديبية ، وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن ، فقال : " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إليَّ مِنَ الدُّنْيا جَمِيعاً " ، فَقَرأ { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ … } إلى قوله : { عَزِيزاً } فقال أصحابه هنيئاً لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ، فأنزل الله هذه الآية بعدها { لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارَ خالِدِينَ فِيها … } إلى قوله : { وكانَ ذلكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا همام ، قال : ثنا قتادة ، عن أنس ، قال : أُنزلت هذه الآية ، فذكر نحوه . حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بنحوه ، غير أنه قال في حديثه : فَقال رجل من القوم : هنيئاً لك مريئاً يا رسول الله ، وقال أيضاً : فبين الله ماذا يفعل بنبيه عليه الصلاة والسلام ، وماذا يفعل بهم . حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : « نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ نَزَلَتْ عَليَّ آيَةٌ أحَبُّ إليَّ مِمَّا عَلى الأرْضِ " ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا : هنيئاً مريئاً يا نبيّ الله ، قد بين الله تعالى ذكره لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه : { لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ … } إلى قوله : { فَوْزاً عَظِيماً } حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، قال : لما نزلت هذه الآية { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } قالوا : هنيئاً مريئاً لك يا رسول الله ، فماذا لنا ؟ فنزلت { لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ } حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس في هذه الآية { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } قال : الحديبية . حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا يحيى بن حماد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : ما كنا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية . حدثنا أبو كُرَيب ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، عن عبد العزيز بن سياه ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، قال : تكلم سهل بن حنيف يوم صفِّين ، فقال : يا أيها الناس اتهموا أنفسكم ، لقد رأيتنا يوم الحديبية ، يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ألسنا على حقّ وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ قال : " بَلى " قال : ففيم نُعطَى الدنية في ديننا ، ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : " يا بْنَ الخَطَّابِ ، إنّي رَسُولُ الله ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي أبَداً " ، قال : فرجع وهو متغيظ ، فلم يصبر حتى أتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على حقّ وهم على باطل ؟ أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار ؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطَى الدنية في ديننا ، ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فقال : يا بن الخطاب إنه رسول الله ، لن يضيعه الله أبداً ، قال : فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ، فأقرأه إياها ، فقال : يا رسول الله ، أوَ فَتْح هو ؟ قال : " نَعَمْ " . حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ ، قال : ثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان عن جابر ، قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية . حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة مِئة ، والحديبية : بئر . حدثني موسى بن سهل الرملي ، ثنا محمد بن عيسى ، قال : ثنا مُجَمع بن يعقوب الأنصاريّ ، قال : سمعت أبي يحدّث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد ، عن عمه مجمِّع بن جارية الأنصاريّ ، وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن ، قال : شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس يهزّون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض : ما للناس ، قالوا : أُوحِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لَيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ } فقال رجل : أوَ فتحٌ هو يا رسول الله ؟ قال : " نَعَمْ » ، « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ لَفَتْحٌ " قال : فقُسِّمَت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، وكان الجيش ألفا وخمس مئة ، فيهم ثلاث مئة فارس ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهماً ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهماً . حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : نزلت { إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً } بالحديبية ، وأصاب في تلك الغزوة ما لم يصبه في غزوة ، أصاب أن بُويع بيعة الرضوان ، وغُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وبلغ الهَدْىُ مَحِله ، وأُطعموا نخل خيبر ، وفرح المؤمنون بتصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبظهور الروم على فارس . وقوله تعالى : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإظهاره إياك على عدوّك ، ورفعه ذكرك في الدنيا ، وغفرانه ذنوبك في الآخرة { ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً } يقول : ويرشدك طريقاً من الدين لا اعوجاج فيه ، يستقيم بك إلى رضا ربك { وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } يقول : وينصرك على سائر أعدائك ، ومن ناوأك نصراً ، لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع ، للبأس الذي يؤيدك الله به ، وبالظفر الذي يمدّك به .