Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 7-7)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : بطاعتك وعبادتك ، وهم المذكورون في قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ] . { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال الأصفهاني : وإنما ذكر تعالى هذه الجملة لأن الكفار قد شاركوا المؤمنين في إنعام كثير عليهم ، فبين بالوصف أن المراد بالدعاء ليس هو النعم العامة ، بل ذلك نعمة خاصة . ثم إن المراد بالمغضوب عليهم والضالين : كلّ من حاد عن جادة الإسلام من أيّ فرقة ونحلة . وتعيين بعض المفسرين فرقة منهم من باب تمثيل العام بأوضح أفراده وأشهرها ، وهذا هو المراد بقول ابن أبي حاتم : لا أعلم بين المفسرين اختلافاً في أن المغضوب عليهم اليهود ، والضالين النصارى . فوائد الأولى : يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : " آمين " ومعناه : اللهم استجب ، أو كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل ، وليس من القرآن ؛ بدليل أنه لم يثبت في المصاحف . والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي عن وائل بن حُجر قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقال : " آمين " مدّ بها صوته " ولأبي داود : رفع بها صوته . قال الترمذي : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن عليّ وأبي هريرة ، وروي عن عليّ وابن مسعود وغيرهم . وعن أبي هريرة قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } . قال : " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول " رواه أبو داود . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه " . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً : " إذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين فقولوا : آمين ، يجبكم الله " . الثانية : في ذكر ما اشتملت عليه هذه السورة من العلوم : اعلم أن هذه السورة الكريمة قد اشتملت - وهي سبع آيات - على حمد الله تعالى ، وتمجيده ، والثناء عليه : بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا ، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين ، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرُّع إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم ، وإلى إخلاص العبادة له ، وتوحيده بالألوهية ، تبارك وتعالى ، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل ، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم - وهو الدين القويم - وتثبيتهم عليه حتى يُفضِيَ بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين . واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة ، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة ، وهم المغضوب عليهم والضالون . قال العلامة الشيخ محمد عبده في تفسيره : الفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن . وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها . ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف كقولهم : إن أسرار القرآن في الفاتحة ، وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ! فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلوّ إلى إعدام القرآن خاصته ، وهي البيان . قال - : وبيان ما أريد : أن ما نزل القرآن لأجله أمور : أحدها : التوحيد ؛ لأن الناس كانوا كلهم وثنيين - وإن كان بعضهم يدّعي التوحيد . ثانيها : وعد من أخذ به ، وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به ، وإنذاره بسوء العقوبة . والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد ، فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما . والوعيد - كذلك - يشمل نقمهما وشقاءهما . فقد وعد الله المؤمنين : بالاستخلاف في الأرض ، والعزّة ، والسلطان ، والسيادة . وأوعد المخالفين : بالخزي والشقاء في الدنيا . كما وعد في الآخرة بالجنة والنعيم وأوعد بنار الجحيم . ثالثها : العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس . رابعها : بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة . خامسها : قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهرياً لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين . هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب . فأما التوحيد : ففي قوله : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] لأنه ناطق بأن كل حمدٍ وثناءٍ يصدر عن نعمةٍ ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد ، ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية . ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى فصرّح به بقوله : { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ولفظ { رَبِّ } ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء . وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه عزّ وجلّ . فليس في الكون متصرف بالإيجاد والإشقاء ، والإسعاد سواه . ثم إن التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين . ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه ، بل استكمله بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السطلة الغيبية ، يُدعَون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم على قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى . وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال . وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطويّ في { بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } [ الفاتحة : 1 ] فذكرُ الرحمة في اول الكتاب ، وهي التي وسعت كل شيء . وعدٌ بالإحسان - لاسيما وقد كررها مرة ثانية - تنبيهاً لنا على أن أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا ، لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا . وقوله تعالى : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] يتضمن الوعد والوعيد معاً ، لأن معنى الدين الخضوع ، أي : إن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها ، لا حقيقة ولا ادعاء ؛ وإن العالم كله يكون فيه خاضعاً لعظمته - ظاهراً وباطناً - يرجو رحمته ، ويخشى عذابه ؛ وهذا يتضمن الوعد والوعيد . أو معنى الدين الجزاء وهو : إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعدٌ ووعيد . وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك . وذلك يستلزم الوعد والوعيد . وأما العبادة ، فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، أوضح معناها بعض الإيضاح بقوله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] أي : إنه قد وضع لنا صراطاً سيبيّنه ويحدده . ويكون مناطُ السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاء في الانحراف عنه . وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة . ويشبه هذا قوله تعالى : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [ العصر : 1 - 3 ] . فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها . وروح العبادة هي إشراب القلوب خشية الله ، وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعلٍ وكفٍ وحركات اللسان والأعضاء . فقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ؛ وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا بهذه الأعمال البدنية ، وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلاً ما ؛ وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة . ومخ العبادة الفكر والعبرة . وأما الأخبار والقصص : ففي قوله تعالى : { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } تصريح بأن هنالك قوما تقدموا ، وقد شرع الله شرائع لهدايتهم ، وصائح يصيح : ألا فانظروا في الشؤون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها ، كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله من الأنبياء : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] حيث بيّن أن القصص إنما هو للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } تصريح بأن مَن دون المنعم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده ، وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفاً بالغضب الإلهيّ ، والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة ، فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق ، وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله . فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالاً على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلاً ، فكان إنزالها أولاً موافقاً لسنة الله تعالى في الإبداع . وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى : " أم الكتاب " . الثالثة : مما صح في فضلها من الأخبار : ما رواه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد بن المُعَلّى رضي الله عنه قال : " كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه . فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . فقال : " ألم يقل الله : { ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] ؟ " - ثم قال لي : " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ " ثم أخذ بيدي ، فملا أراد أن نخرج ، قلت : يا رسول الله ألم تقل : " لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن " . قال : " الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " . وروى الإمام أحمد والترمذيّ بإسناد حسن صحيح عن أبي هريرة ، نحوه ، غير أن القصة مع أبيّ بن كعب ، وفي آخره : " والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها ، إنها السبع المثاني " واستدل بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض ، كما هو المحكيّ عن كثير من العلماء منهم : إسحاق بن راهويه ، وأبو بكر بن العربيّ ؛ وابن الحضار من المالكية ، وذلك بيّن واضح . وروى البخاريّ عن أبي سعيد الخدري قال : " كنا في مسيرٍ لنا فنزلنا ، فجاءت جارية فقالت : إن سيد الحيّ سليم ، وإن نفرنا غَيَبٌ فهل منكم راق ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه بُرقيةٍ . فرقاه ، فَبَرَأ ، فأمر له بثلاثين شاةً ، وسقانا لَبَناً ؛ فلما رجع قلنا له : أكنت تُحسن رقيةً ، أو كنت ترقِي ؟ قال : لا ، ما رقيت إلا بأم الكتاب . قلنا : لا تُحْدِثوا شيئاً حتى نأتي ، أو نسأل ، النبيّ صلى الله عليه وسلم . فلما قدمنا المدينة ، ذكرناه للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " وما كان يُدريه أنها رقية ؟ اقسموا واضربوا لي بسهم " وهكذا رواه مسلم وأبو داود . وفي بعض روايات مسلم : أن أبا سعيد الخدريّ هو الذي رقي ذلك السليم - يعني اللديغ ، يسمونه بذلك تفاؤلا . وروى مسلم والنسائي عن ابن عباس قال : بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه فقال : " هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم . فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم . فسلّم وقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما ، لم يؤتَهُمَا نبيّ قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة ، لم تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته " . وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج ( ثلاثاً ) غيرُ تمام " فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام . فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي - وقال مرّة فوّض إليّ عبدي - فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل " . ويكفي من شرح الفاتحة هذا المقدار الجليل ، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل .