Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 62-64)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ } جمع ولي . وهو في الأصل ضد العدو ، بمعنى المحب . وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل ، أي : الذين يتولونه بالطاعة ، كقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] وبمعنى المفعول أي : الذي يتولاهم بالإكرام كقوله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [ البقرة : 257 ] وقوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } [ المائدة : 55 ] وكلا المعنيين متلازمان : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } من لحوق مكروه ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : من الفزع الأكبر ، كما في قوله تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ ٱلأَكْبَرُ } [ الأنبياء : 103 ] . { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بكل ما جاء من عند الله تعالى { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي : يخافون ربهم ، فيفعلون أوامره ، ويتجنبون مناهيه ، من الشرك والكفر والفواحش . ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف ، كأنه قيل : من أولئك وما سبب فوزهم بذاك الإكرام ؟ فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير ، المنجيين عن كل شر . أو النصب بمحذوف . وقوله تعالى : { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } { ٱلْبُشْرَىٰ } مصدر إما باق على مصدريته ، والمبشر به محذوف ، أي : لهم البشارة فيهما بالجنة ، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر كقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [ التوبة : 20 - 21 ] وقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] وإما مراد به المبشر به ، وتعريفه للعهد . كقوله سبحانه { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [ الحديد : 12 ] . وقوله تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } أي : لمواعيده { ذٰلِكَ } أي : بشراكم ، وهي الجنة ، { هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي : المنال الجليل ، الذي لا مطلب وراءه ، كيف وقد فازوا بالجنة وما فيها ، ونجوا من النار وما فيها ؟ . تنبيه هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله ، وقد بين تعالى في كتابه ، ورسوله في سنته ، أن لله أولياء من الناس ، كما أن للشيطان أولياء . وللإمام تقي الدين ابن تيمية ، عليه الرحمة ، كتاب في ذلك سماه ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها ، لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الولي والأولياء . قال رحمه الله : إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء ، كما فرق الله ورسوله بينهما . فأولياء الله هم المؤمنون المتقون ، كما في هذه الآية ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، أو فقد آذنته بالحرب " الحديث - وهذا أصح حديث يروى في الأولياء ، دل على أن من عادى وليّا لله ، فقد بارز الله بالمحاربة . وفي حديث آخر : " وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " أي : آخذ ثأرهم ممن عاداهم ، كما يأخذ الليث الحرب ثأره ، وهذا لأن أولياء الله هم الذين آمنوا به ووالوه ، فأحبوا ما يحب ، وأبغضوا ما يبغض ، ورضوا بما يرضى ، وسخطوا بما يسخط ، وأمروا بما يأمر ، ونهوا عما نهى ، وأعطوا لمن يحب أن يعطى ، ومنعوا من يحب أن يمنع . والولاية ضد العداوة . وأصل الولاية المحبة والقرب . وأصل العداوة البغض والعبد . وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه ، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم ، وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين ، وإمام المتقين ، الذي بعثه الله بأفضل كتبه ، وشرع له أفضل شرائع دينه ، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه ، فلا يكون وليّا لله إلا من آمن به ، وبما جاء به ، واتبعه ظاهراً وباطناً ، ومن ادعى محبة الله وولايته ، وهو لم يتبعه ، فليس من أولياء الله ، بل من خالفه كان من أعداء الله ، وأولياء الشيطان ، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ، ولا يكونوا من أوليائه . فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه . قال تعالى : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ … } الآية [ المائدة : 18 ] وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله ، لسكناهم مكة ، ومجاورتهم البيت ، فأنزل تعالى : { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } [ الأنفال : 34 ] وكما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله ، وليس وليّا لله ، بل عدو له ، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ، يقرون في الظاهر بالشهادتين ، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل أن لا يقروا باطناً برسالته عليه السلام ، وإنما كان ملكاً مطاعاً ، ساس الناس برأيه ، من جنس غيره من الملوك . أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين خاصة ، أو يقولون إنه مرسل إلى عامة الخلق ، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم ، ولا يحتاجون إليه ، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته ، كما كان الخضر مع موسى ، أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه ، وينتفعون به من غير واسطة ، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة ، وهم موافقون له فيها ، وأما الحقائق الباطنة ، فلم يرسل بها ، أو لم يكن يعرفها ، أو هم أعرف بها منه ، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته ، فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله ، وإنما أولياء الله الذين وصفهم تعالى بولايته بقوله : { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } [ يونس : 62 - 63 ] . ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن ، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله المتقين . ومن آمن ببعض ما جاء به ، وكفر ببعض ، فهو كافر ليس بمؤمن . ومن الإيمان به ، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه ، في تبليغ أمره ونهيه ، ووعده ووعيده ، وحلاله ، فالحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله ، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر من أولياء الشيطان . وأما خلق الله تعالى للخلق ، ورزقه إياهم ، وإجابته لدعائهم ، وهدايته لقلوبهم ، ونصرهم على أعدائهم ، وغير ذلك من جلب المنافع ، ودفع المضار ، فهذا لله وحده ، يفعله بما يشاء من الأسباب ، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل . ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فليس بمؤمن ، ولا ولي لله تعالى ، كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبادهم ، وكذلك المنتسبين إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ، ممن كان من حكماء الهند والترك ، وله علم أو زهد وعبادة في دينه ، وليس مؤمناً بجميع ما جاء به ، فهو كافر ، عدو لله وإن ظن طائفة أنه ولي لله . كما كان حكماء الفرس من المجوس كفاراً مجوساً ، وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله ، كانوا مشركين ، يعبدون الأصنام والكواكب ، وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ، ولكن ليس بمؤمن بالرسل ، ولا يصدقهم فيما أخبروا به ، ولا يطيعهم فيما أمروا ، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ، ولا أولياء الله ، وهؤلاء تقترن بهم الشياطين ، وتنزل عليهم ، فيكاشفون الناس ببعض الأمور ، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر ، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين . قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 221 - 223 ] وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات ، وخوارق العادات ، إذا لم يكونوا متبعين للرسل ، فلابد أن يكذبوا ، وتكذبهم شياطينهم ، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور ، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة ، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين ، واقترنت بهم ، فصاروا من أولياء الشيطان ، لا من أولياء الرحمن . ومن الناس من يكون فيه إيمان ، وفيه شعبة من نفاق ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " ، وفي صحيح مسلم : " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم " . وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون ، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى ، فمن كان أكمل إيماناً وتقوى ، كان أكمل ولاية لله ، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل ، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى ، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله ، بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق . وأولياء الله على طبقتين : سابقون ومقربون ، وأصحاب يمين مقتصدون ، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز ، فالأبرار أصحاب اليمين ، هم المتقربون إليه بالفرائض ، يفعلون ما أوجب الله عليهم ، ويتركون ما حرم الله عليهم ، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ، ولا الكف عن فضول المباحات ، وأما السابقون المقربون ، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ، ففعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات ، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم ، أحبهم الرب حبّا تامّاً ، كما قال تعالى : " وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ حَتَّى أَحِبَّهُ " يعني : الحب المطلق . ثم إذا كان العبد لا يكون ولياً لله إلا إذا كان مؤمنا تقيّاً ، لهذه الآية - فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليّاً لله ، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته ، وإن قدر أنه لا إثم عليه ، مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا ، فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين ، فمن يتقرب إلى الله ، لا بفعل الحسنات ، ولا بترك السيئات ، لم يكن من أولياء الله . وكذلك المجانين والأطفال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ " وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما ، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول ، لكن الصبي المميز تصح عباداته ، ويثاب عليها عند جمهور العلماء ، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم ، فلا تصح شيء من عباداته باتفاق العلماء ، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات ، بل لا يصلح هو ، عند عامة العقلاء ، لأمور الدنيا ، كالتجارة والصناعة . فلا يصح أن يكون بزازاً ولا عطاراً ولا حداداً ولا نجاراً ، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء . فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ، ولا غير ذلك من أقواله ، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي ، ولا ثواب ولا عقاب ، بخلاف الصبي المميز ، فإن له أقوالا معتبرة في مواضع ، بالنص والإجماع وفي مواضع فيها نزاع ، وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل ، وامتنع أن يكون وليّا لله ، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله ، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه ، أو نوعاً من تصرف ، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع ، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب ، لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية ، كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب ، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليّاً لله ، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله ، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله ؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر ، دون الحقيقة الباطنة ، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقاً إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو يقول إن الأنبياء ضيقوا الطريق ، أو هم قدوة العامة دون الخاصة ، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية ، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان ، فضلاً عن ولاية الله عز وجل ، فمن احتج بما يصدر عن أحدهم ، من خرق عادة ، على ولايتهم ، كان أضل من اليهود والنصارى ، وكذلك المجنون ، فإن كونه مجنوناً يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات ، والتي هي شرط في ولاية الله ، ومن كان يجن أحياناً ، ويفيق أحياناً ، إذا كان في حال إفاقته مؤمناً بالله ورسوله ، ويؤدي الفرائض ، ويجتنب المحارم ، فهذا إذا جن ، لم يكن جنونه مانعاً من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه ، الذي أتى به في حال إفاقته ، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك ، وكذلك من طرأ عليه الجنون ، بعد إيمانه وتقواه ، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه ، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله ، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه . فعلى هذا ، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ، ولا يجتنب المحارم ، بل قد يأتي بما يناقض ذلك ، لم يكن لأحد أن يقول : هذا وليّ لله ، فإن هذا إن لم يكن مجنوناً ، بل كان متولها من غير جنون ، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ، ويفيق أخرى ، وهو لا يقوم بالفرائض ، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر ؛ وإن كان مجنوناً باطناً وظاهراً قد ارتفع عنه القلم ، فهذا وإن لم يكن معاقباً عقوبة الكافرين ، فليس هو مستحقاً لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل ، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله ، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمناً بالله ، متقياً ، كان له من ولاية الله بحسب ذلك ، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق ، أو كان كافراً أو منافقاً ثم طرأ عليه الجنون ، فهذه فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه ، وجنون لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق . فصل وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الأمور المباحات ، فلا يتميزون بلباس دون لباس ، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره ، إذا كان كلاهما مباحاً ، كما قيل : كم من صديق في قباء ، وكم من زنديق في عباء ، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور ، فيوجدون في أهل القرآن ، وأهل العلم ، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ، ويوجدون في التجار والصناع والزراع . وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم ( القراء ) فيدخل فيهم العلماء والنساك . ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم ( الصوفية ) ، نسبة إلى لباس الصوف . هذا هو الصحيح ، وقد قيل : إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء وقيل : إلى ( صوفة بن أد ) قبيلة من العرب ، كانوا يعرفون بالنسك ، وقيل إلى أهل الصفا ، وقيل : إلى الصفوة ، وقيل : الصفة ، وقيل : إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى . وهذه أقوال ضعيفة ، فإنه لو كان كذلك لقيل : صفي ، أو صفائي ، أو صُفي ، ولم يقل : صوفي . وصار أيضاً اسم الفقراء يعني به أهل السلوك ، وهذا عرف حادث . وقد تنازع الناس أيما أفضل : مسمى الصوفي أو مسمى الفقير ؟ ويتنازعون أيضاً : أيما أفضل ؟ الغني الشاكر ، أو الفقير الصابر ؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : " أتقاهم " . فدل الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أبيض ، ولا لأبيض على أسود ، إلا بالتقوى " وعنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله تعالى أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، الناس رجلان : مؤمن تقيّ ، وفاجر شقيّ " . فصل وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطيء ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه . ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى ، وتكون من الشيطان لبسها عليه ، لنقص درجته ، ولا يعرف أنها من الشيطان ، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى ، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، ولم يؤثم النبي صلى الله عليه وسلم المجتهد المخطئ ، بل جعل له أجرا على اجتهاده ، وجعل خطأه مغفورا له ، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلط ، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي الله ، إلا أن يكون نبياً ، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه ، إلا أن يكون موافقاً ، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاماً ومحادثة وخطاباً من الحق ، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن وافقه قَبِلَهْ ، وإن خالفه لم يقبله ، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه ، والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : طرفان ووسط ، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه ، وسلم إليه جميع ما يفعله . ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع ، أخرجه عن ولاية الله بالكلية ، وإن كان مجتهدا مخطئاً . وخيار الأمور أوساطها ، وهو أن لا يجعل معصوماً ولا مأثوماً ، إذا كان مجتهدا مخطئا ، فلا يتبع في كل ما يقوله ، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده ، والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله ، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ، ووافق قول آخرين ، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف ، ويقول : هذا خالف الشرع ! وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن كان في أمتي أحد ، فعمر منهم " وكان عمر يقول : اقتربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة . والمحدث الذي يأخذ عن قلبه أشياء ، ليس بمعصوم ، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم . ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور ، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة ، ويقررهم على منازعته ، ولا يقول لهم : أنا محدث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني . فأي من ادعى له أصحابه أنه ولي الله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة - فهو وهم مخطئون . ومثل هذا من أضل الناس ، فعمر ابن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه ، وهو أمير المؤمنين ، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول ، هو وهم ، على الكتاب والسنة ، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم ، ولذا قال الجنيد : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . وقال أبو عثمان النيسابوري : من أمرّ السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة ، لقوله تعالى : { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } [ النور : 54 ] وقال أبو عمرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل . فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن ، وبحقائق الإيمان الباطنة ، وشرائع الإسلام . فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان ؛ أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين ، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق ، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان ، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ، ويتوجه إليها ، أو يسجد إلى ناحية شيخه ، ولا يخلص الدين لرب العالمين ، أو يلابس الكلاب أو النيران ، أو يأوي إلى المزابل ، والمواضع النجسة ، أو يأوي إلى المقابر ، لا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين ، أو يكره سماع القرآن ، وينفر عنه ، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ، ويؤثر سماع مزامير الشيطان ، على سماع كلام الرحمن ، فهذه علامات أولياء الشيطان ، لا علامات أولياء الرحمن - انتهى ملخصا . والكتاب مما يلزم الوقوف عليه ، ومطالعته بالحروف . ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره ، فرحم الله جامعه ، وجزاه خيراً . وقوله تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ … } .