Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 103, Ayat: 1-3)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱلْعَصْرِ } أي : الدهر . أقسم تعالى به لانطوائه على تعاجيب الأمور القارة والمارة . ولذا قيل له : ( أبو العجب ) ؛ ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها . فينبه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة . وللتنويه به والتعظيم من شأنه ، تعريضاً ببراءته مما يضاف إليه من الخسران والذم . كما قيل : @ يَعِيبونَ الزمانَ وليسَ فِيهِ معايبُ غير أهلٍ للزمانِ @@ وجوز أن يراد بالعصر : الوقت المعروف الذي تجب فيه صلاة العصر . قال الإمام : كان من عادة العرب أن يجتمعوا وقت العصر ويتحادثوا ويتذاكروا في شؤونهم . وقد يكون في حديثهم ما لا يليق أو ما يؤذي به بعضهم بعضاً . فيتوهم الناس أن الوقت مذموم . فأقسم الله به لينبهك إلى أن الزمان في نفسه ليس مما يذم ويسب ، كما اعتاد الناس أن يقولوا : ( زمان مشؤوم ) و ( وقت نحس ) و ( دهر سوء ) وما يشبه ذلك . بل هو عادّ للحسنات كما هو عادّ للسيئات . وهو ظرف لشؤون الله الجليلة من خلق ورزق وإعزاز وإذلال وخفض ورفع . فكيف يذم في ذاته ، وإنما قد يذم ما يقع فيه من الأفاعيل الممقوتة . { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } أي : خسران ، لخسارته رأس ماله الذي هو نور الفطرة والهداية الأصلية ، بإيثار الحياة الدنيا واللذات الفانية والاحتجاب بها وبالدهر , وإضاعة الباقي في الفاني { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : بالله وبما أنزل من الحق ، إيمانا ملك إرادتهم فلا يعملون إلا ما يوافق اعتقاداتهم . كما قال : { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } قال القاشاني : أي من الفضائل والخيرات . أي اكتسبوها فربحوا زيادة النور الكماليّ على النور الاستعداديّ الذي هو رأس مالهم . { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ } أي : أوصى بعضهم بعضاً بما أنزل الله في كتابه من أمره ، واجتناب ما نهى عنه من معاصيه { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } أي : على ما يبلو الله به عباده . أو على الحق ، فإن الوصول إلى الحق سهل . وأما البقاء عليه والصبر معه بالاستقامة والجهاد لأجله ، فذاك الذي يظهر به مصداق الإيمان وحقيقته . تنبيهات الأول : قال الإمام ابن القيّم في ( مفتاح دار السعادة ) : قال الشافعيّ رضي الله عنه : لو فكر الناس كلهم في هذه السورة ، لكفتهم . وبيان ذلك أن المراتب أربعة وباستكمالها يحصل للشخص غاية كماله . إحداها : معرفة الحق . الثانية : عمله به . الثالثة : تعليمه من لا يحسنه . الرابعة : صبره على تعلمه والعمل به وتعليمه . فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة . وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر ، إلا الذين آمنوا . وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به ، فهذه مرتبة . وعملوا الصالحات وهم الذين عملوا بما علموه من الحق فهذه أخرى . { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ } ، وصى به بعضهم بعضا تعليما وإرشادا ، فهذه مرتبة ثالثة . { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } ، صبروا على الحق ووصى بعضهم بعضا بالصبر عليه والثبات . فهذه مرتبة رابعة . وهذا نهاية الكمال . فإن الكمال أن يكون الشخص كاملا في نفسه ، مكملاً لغيره . وكماله بإصلاح قوتيه العلمية والعملية . فصلاح القوة العلمية بالإيمان . وصلاح القوة العملية بعمل الصالحات . وتكميله غيره ، بتعليمه إياه وصبره عليه وتوصيته بالصبر على العلم والعمل . فهذه السورة على اختصارها ، هي من أجمع سور القرآن للخير بحذافيره . والحمد لله الذي جعل كتابه كافياً عن كل ما سواه ، شافياً من كل داء ، هادياً إلى كل خير . انتهى الثاني : قال الرازي : هذه الآية { وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } فيها وعيد شديد . وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس ، إلا من كان آتياً بهذه الأشياء الأربعة . وهي : الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر . فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور . وأنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه ، فكذلك يلزمه في غيره أمور . منها الدعاء إلى الدين . والنصيحة . والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وأن يحب له ما يحب لنفسه . ثم كرر التواصي ليتضمن الأول : الدعاء إلى الله ، والثاني : الثبات عليه . والأول : الأمر بالمعروف ، والثاني : النهي عن المنكر . ومنه قوله تعالى : { وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } [ لقمان : 17 ] وقال عمر : رحم الله من أهدى إليّ عيوبي . الثالث : قال الرازي : دلت الآية على أن الحق ثقيل ، وأن المحن تلازمه . فلذلك قرن التواصي بالصبر . الرابع : تخصص التواصي بالحق والصبر ، مع اندراجهما في الأعمال الصالحة ، لإبراز كمال الاعتناء بهما . قال الإمام : من تلك الأعمال الدعوة إلى الحق والوصية بالصبر . لكنه أراد تخصيص هذين الأمرين بالذكر ، لأنهما حفاظ كل خير ورأس كل أمر . والحق هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أو شريعة صحيحة . وهو ما أرشد إليه دليل قاطع أو عيان ومشاهدة . فشرط النجاة من الخسران : أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ، ويمكنوه من قلوبهم ، ثم يحمل الناس بعضهم بعضاً عليه ، بأن يدعو كلٌّ صاحبَه إلى الاعتقاد بالحقائق الثابتة ، التي لا ينازع فيها العقل ولا يختلف فيها النقل . وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات ، التي لا قَرَارَ للنفوس عليها ، ولا دليل يهدي إليها . ولا يكون ذلك إلا بإعمال الفكر وإجادة النظر في الأكوان ، حتى تستطيع النفس دفع ما يرد عليها من باطل الأوهام . وهذا إطلاق للعقل من كل قيد مع اشتراط التدقيق في النظر ، لا الذهاب مع الطيش والانخداع للعادة والوهم . ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح بعد أن يعرفه فهو من الخاسرين . كما ترى في الآية بالنص الصريح الذي لا يقبل التأويل . والصبر قوة للنفس على احتمال المشقة في العمل الطيب ، واحتمال المكروه من الحرمان من اللذة ، إن كان في نيلها ما يخالف حقّاً أو ما لا تأذن به الشريعة الصحيحة التي لا اختلاف فيها . واحتمال الآلام إذا عرضت المصائب بدون جزع ولا خروج في دفعها عن حدود الحق والشرع . فشرط النجاة من الخسران أن تصبر ، وأن توصي غيرك بالصبر ، وتحمله على تكميل قواه بهذه الفضيلة الشريفة ، التي هي أم الفضائل بأسرها ، ولا يمكنك حمله على ذلك ، حتى تكون بنفسك متحلياً بها . وإلا دخلت فيمن يقول ، ولا يفعل كما يقول . فلم تكن ممن يعمل الصالحات . انتهى . الخامس : قال الإمام : إنما قال : { وَتَوَاصَوْاْ } ولم يقل : ( وأوصوا ) ليبين أن النجاة من الخسران إنما تناط بحرص كل من أفراد الأمة على الحق ، ونزوع كل منهم إلى ( أن يوصي به قومه ومن يهمه أمر الحق ؛ ليوصي صاحبه بطلبه ، يهمه أن يرى الحق فيقبله . فكأن في هذه العبارة الحزلة ، قد نص على تواصيهم بالحق وقبولهم الوصية إذا وجهت إليهم ) . السادس : قال ابن كثير : ذكر الطبرانيّ من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله بن حصن قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها . ثم يسلم أحدهما على الآخر . قال الإمام : قد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك . وهو خطأ . وإنما كان ليذكر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها . خصوصاً من التواصي بالحق والتواصي بالصبر . حتى يجتلب منه قبل التفرق ، وصية خير لو كانت عنده . وقد فسر الإمام رحمه الله هذه السورة بتفسير على حدة لم يسبق إلى نظيره ، فعلى من أراد التوسع في أسرارها ، أن يرجع إليه .