Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 105, Ayat: 1-5)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } يعني : الذين قدموا من اليمن يريدون تخريب الكعبة من الحبشة ، ورئيسهم أبرهة الحبشيّ الأشرم . كما سيأتي . قال أبو السعود : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها . والرؤية علمية . أي : ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان ، باستماع الأخبار المتواترة ، ومعاينة الآثار الظاهرة . وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه ، بأن يقال : ألم تر ما فعل ربك إلخ - لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله عليه الصلاة والسلام . فإن ذلك من الإرهاصات . لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبيّ عليه الصلاة والسلام ، كما سنأثره . وقوله تعالى : { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } بيان إجماليّ لما فعل بهم . أي : ألم يجعل مكرهم وسعيهم لتخريب الكعبة في تضييع وإبطال لما حاولوا ، وتدميرهم أشد تدمير . قال الرازي : اعلم أن الكيد : هو إرادة مضرة بالغير على الخفية إن قيل : لم سماه كيداً وأمره كان ظاهراً ، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت ؟ قلنا : نعم لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر . لأنه كان يضمر الحسد للعرب ، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بلدهم ، إلى نفسه وإلى بلدته { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ } أي : طوائف متفرقة ، يتبع بعضها بعضاً من نواح شتى . و { أَبَابِيلَ } جمع لا واحد له ، على ما حكاه أبو عبيدة والفراء . وزعم أبو جعفر الرؤاسي - وكان ثقة - أنه سمع واحدها إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة . وهي حزمة الحطب . استعير لجماعة الطير . وحكى الكسائيّ عن بعض النحويين في مفردها ( أبول ) وعن آخرين ( أبيل ) سماعاً كما أثره ابن جرير . والتنكير في ( طيرا ) إما للتحقير ، فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر . أو للتفخيم ، كأنه يقول : وأي طير ترمي بحجارة صغيرة فلا تخطيء المقتل . أفاده الرازيّ . { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } أي : من طين متحجر . وروى ابن وهب عن ابن زيد أن المعني بالسجيل : السماء الدنيا لأن اسمها سجيل . قال ابن جرير : وهذا القول الذي قاله ابن زيد لا نعرف لصحته وجها في خبر ولا عقل ولا لغة . وأسماء الأشياء لا تدرك إلا من لغة سائرة أو خبر من الله تعالى ذكره { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } قال ابن جرير : كزرع أكلته الدواب فراثته ، فيبس وتفرقت أجزاؤه . شبه تقطع أوصالهم بالعقوبة التي نزلت بهم ، وتفرق آراب أبدانهم بها ، بتفرق أجزاء الروث الذي حدث عن أكل الزرع . قال الشهاب : ولم يذكر الروث لهجنته . فجاء على الآداب القرآنية . وفيه إظهار تشويه حالهم . وقال أبو مسلم : ( العصف ) : التين ، لقوله : { ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ … } [ الرحمن : 12 ] لأنه تعصف به الريح عند الذر ، فتفرقه عن الحب وهو إذا كان مأكولاً فقد بطل ، ولا رجعة له ولا منعة فيه . انتهى . ومن الوجوه في الآية أن يكون المعنى : كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه ، والتقدير : كعصف مأكول الحب . كما يقال فلان حسن أي : حسن الوجه . فأجرى { مَّأْكُولٍ } على ( العصف ) من أجل أنه أكل حبه . لأن هذا المعنى معلوم . ومنها أيضاً : أن معنى { مَّأْكُولٍ } مما يؤكل ، يعني : تأكله الدواب . يقال لكل ما يصلح للأكل : ( هو مأكول ) والمعنى : جعلهم كتبن تأكله الدواب في التفرق والتفتت والهلاك . أشار له الرازيّ . تنبيهات الأول : كان السبب الذي من أجله حلت عقوبة الله تعالى لأصحاب الفيل , مسير أبرهة الحبشي . بجنده مع الفيل إلى بيت الله الحرام لتخريبه . وواقعة الفيل في ذاتها معروفة متواترة الرواية . حتى إنهم جعلوها مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث . فيقولون : ولد عام الفيل وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك . وتفصيل نبئها ما أثره ابن هشام : أن أبرهة الحبشي كان أمير صنعاء للنجاشي . وكان ذا دين في النصرانية . فبنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها . ثم كتب للنجاشي : إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك . ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب . فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من كنانة فخرج حتى أتى الكنيسة فقعد فيها ( أي أحدث فيها ) ثم خرج فلحق بأرضه . فأخبر بذلك أبرهة فقال : من صنع هذا ؟ فقيل : صنع هذا رجل من العرب من أهل هذا البيت الذي تحج العرب إليه بمكة ، لما سمع قولك ( أصرف إليها حج العرب ) غضب فجاء فقعد فيها . أي : أنها ليست لذلك بأهل . فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه . ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت . ثم سار وخرج معه بالفيل . وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقاً عليهم ، حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام . فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له : ذو نفْر . فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله الحرام ، وما يريد من هدمه وإخرابه . فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفْر وأصحابه وأتى به أسيراً . فلما أراد قتله قال له ذو نفْر : أيها الملك ! لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيراً لك من قتلي . فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق . وكان أبرهة رجلا حليما . ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له . حتى إذا كان بأرض خثعم عرص نفيل بن حبيب الخثعميّ في قبيلي خثعم : شهرانَ وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب . فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيراً . فأتى به . فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك ! لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب . وهاتان يداي لك على قبيلة خثعم : شهران وناهس ، بالسماع والطاعة . فخلى سبيله وخرج به معه يدله . حتى إذا مر بالطائف خرج له مسعود بن معتب الثقفيّ في رجاله ثقيف . فقالوا له : أيها الملك ! إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللات - إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه . فتجاوز عنهم - واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة - فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة . فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمَّس . فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك : فرَجمت قبرَه العرب . فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس . فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلا من الحبشة يقال له : الأسود بن مفصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة . فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم . وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به . فتركوا ذلك . وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ، ثم قل له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لحربكم . إنما جئت لهدم هذا البيت . فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب ، فلا حاجة لي في دمائكم . فإن هو لم يرد حربي فأتني به . فلما دخل حناطة مكة سأل من سيد قريش وشريفها ؟ . فقيل له : عبد المطلب بن هاشم . فجاءه فقال له : ما أمره به أبرهة . فقال له عبد المطلب : والله ! ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام وبيت خليله عليه السلام ( أو كما قال ) فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه . وأن يخل بينه وبينه ، فوالله ! ما عندنا دفع عنه . فقال له حناطة : فانطلق معي إليه ، فإنه قد أمرني أن آتيه بك . فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه ، حتى أتى العسكر . فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا حتى دخل عليه وهو في مَحْبَسه . فقال له : يا ذا نفر ! هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر ، وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوّاً أو عشيّاً . ما عندي غناء في شيء مما نزل بك ، إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي . فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فيكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير ، إن قدر على ذلك . فقال : حسبي . فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة . يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال . وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت . فقال : أفعل . فكلم أنيس أبرهة فقال له : أيها الملك ! هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة ، وهو يطعم الناس في السهل ، والوحوش في رؤوس الجبال . فأذن له عليك فليكلمك في حاجته . قال : فأذن له أبرهة . قال : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته . وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان . فقال : حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال له ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني . أتكلمني في مائتي بعير أصابتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك ، قد جئتُ لهدمه لا تكلمني فيه قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : وما كان ليمتنع مني ، قال : أنت وذاك . وكان ، فيما يزعم أهل العلم ، قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة - يعمر بن نفاثة سيد بني بكر وخويلد ابن واثلة سيد هذيل . فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت ، فأبى عليه . والله أعلم ، أكان ذلك أم لا . فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له . فلما انصرفوا عنه ، انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب ، تخوفاً عليهم من معرة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة . وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده . فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة : @ لا هُمّ إن العبدَ يمـ ـنع رَحْلَهُ ، فامنع حِلالكْ لا يغلبنّ صَليبُهُمْ ومحالُهُم ، عَدْواً مِحَالك إن كنت تاركهم وقبـ ـلتَنَا فَأَمْرٌ ما بدا لك @@ ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة ، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال ، فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها . فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وعبَّى جيشه ، وأبرهةٌ مجمع لهدم البيت ثم الانصراف إلى اليمين . فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل فأخذ بأذنه . فقال له : ابرك أو ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه فبرك الفيل . وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم . فضربوا رأسه ليقوم فأبى . فأدخلوا محاجن لهم في مراقّه فبزغوه بها - أي أدموه - ليقوم فأبى . فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله تعالى طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلَسَان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحداً إلا هلك . وليس كلَّهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا . ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن . فقال نفيل حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته : @ أين المفرُّ والإله الطالبْ والأشرم المغلوبُ ليس الغالبْ @@ فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون بكل مهلك . على كل منهل . وأصيب أبرهة في جسده . وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة . كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تَمُثُّ - أي : تسيل - قيحاً ودماً . حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر . فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، فيما يزعمون . قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة . أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدريّ بأرض العرب ، ذلك العام . قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، كان مما يَعُدّ الله على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ … } السورة . ثم قال ابن إسحاق : فلما ردّ الله الحبشة عن مكة ، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة ، أعظمت العرب قريشاً وقالوا : أهل الله ؛ قاتل الله عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم . فقالوا في ذلك أشعاراً يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة ، وما ردّ عن قريش من كيدهم . ثم ساق القصائد في ذلك . وإنما آثرت في سياقها ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق . لأنه أحسن اقتصاصاً وأبلغ سبكا ، لإثارته عن صميم العربية روايات نبغاء رجالها ، فرحمه الله ورضي عنه . التنبيه الثاني : إنما أضيف أمر القصة إلى الفيل ، واشتهرت به ؛ لاصطحابهم الفيل معهم للبطش والتخريب . فإنه لو تم لقائديه كيدهم ، لكان الفيل يَدَهُم العاملة وسهمهم النافذ . وذلك أن جبابرة البلاد التي يوجد فيها الفيل يتخذونه آلة بطش وانتقام . فإذا غضبوا على محارب وأسروه ، أو وزير وأوثقوه ، أو بلد ونازلوا حصنه - أرسلوا على دار المغضوب عليه أو حصنه الفيل ، فنطح برأسه ونابه الصرح فيدكه . وقواعد البنيان فيهدمها . فيكون أمضى من معاول وفؤوس . وأعظم رعباً ورهبة في النفوس . وربما ألقوا المسخوط عليه بين يديه ، فأعمل فيه نابه ، ولف عليه خرطومه وشاله ، ومثل به تمثيلاً كان أشد بطشاً وتنكيلاً . وقد حدثني بغرائب هذه الفظائع الجاهلية بعض آل ملوك الأفغان لما أقام مدة بالشام . الثالث : قال القاشانيّ : قصة أصحاب الفيل مشهورة ، وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . وهي إحدى آيات قدرة الله ، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه . وإلهام الطيور والوحوش أقرب من إلهام الإنسان لكون نفوسهم ساذجة . وتأثير الأحجار بخاصية أودعها الله تعالى فيها ليس بمستنكر . ومن اطلع على عالم القدرة ، وكشف له حجاب الحكمة ، عرف لمية أمثال هذه . قال : وقد وقع في زماننا مثلها من استيلاء الفأر على مدينة أبيورد وإفساد زروعهم ورجوعها في البرية إلى شط جيحون ، وأخذ كل واحدة منها خشبة من الأيكة التي على شط نهرها وركوبها عليها وعبورها بها من النهر . الرابع : قال الإمام الماورديّ في ( أعلام النبوة ) : آيات الملك باهرة ، وشواهد النبوات قاهرة . تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب بصدق . ولا منتحل بمحق . وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها . ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاطرت آيات نبوته وظهرت آيات بركته . فكان من أعظمها شأنا . وأظهرها برهانا . وأشهرها عيانا وبيانا . أصحاب الفيل أنفذهم النجاشيّ من أرض الحبشة في جمهور جيشه على مكة لقتل رجالها وسبي ذراريها وهدم الكعبة . وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانها حملا في بطن أمه بمكة . لأنه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل . فكانت آيته في ذلك من وجهين : أحدهما : أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا . فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملا ووليدا . والثاني : أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم . وما هم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم أو متدين وثن أو قائل بالزندقة أو مانع من الرجعة . ولكن لما أراده الله تعالى من ظهور الإسلام تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة ، وأن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج . فإن قيل : فكيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ، ولم يمنع الحجاج من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها ؟ قيل : فعلُ الحجاج كان بعد استقرار الدين ، فاستغنى عن آيات تأسيسه ، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة . على أن الرسول قد أنذر بهدمها فصار الهدم آية بعد أن كان المنع آية فلذلك اختلف حكمهما في الحالين والله تعالى أعلم . ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى بجيش الفيل ، تهيبوا الحرم وأعظموه وزادت حرمته في النفوس ، ودانت لقريش بالطاعة وقالوا : أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم ، فزادوهم تشريفاً وتعظيماً ، فصاروا أئمة ديانين ، وقادة متبوعين . وصار أصحاب الفيل مثلا في الغابرين . وكان شأن الفيل رادعاً لكل باغ ودافعاً لكل طاغ . وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن نبوته وبعد هجرته ، جماعة شاهدوا الفيل وطير الأبابيل . منهم حكيم بن حزام وحاطب بن عبد العزى ونوفل بن معاوية . لأن كل واحد من هؤلاء عاش مائة وعشرين سنة . منها ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام . انتهى . الخامس : ورد في كثير من الأحاديث الصحيحة الإشارة إلى نبأ الفيل . روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته فزجروها فألحت فقالوا : خلأت القصواء - أي : حرنت - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق . ولكن حبسها حابس الفيل " ؛ قال ابن الأثير في النهاية : هو فيل أبرهة الحبشيّ الذي جاء يقصد خراب الكعبة ، فحبس الله الفيل فلم يدخل الحرم . ورد رأسه راجعاً من حيث جاء . يعني : أن الله حبس ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الحديبية . فلم تتقدم ولم تدخل الحرم . لأنه أراد أن يدخل مكة بالمسلمين . وفي الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين . وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس . ألا فليبلغ الشاهد الغائب " .