Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 48-48)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ } أي : انزل من السفينة { بِسَلاَمٍ مِّنَّا } أي : سلامة { وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } أي : في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان { وَأُمَمٌ } أي : ومنهم أمم { سَنُمَتِّعُهُمْ } أي : في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما . لطيفة ذهب العلماء ، في الطوفان ، مذاهب شتى . فالأكثرون على أنه عمّ الأرض بأسرها ، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر ، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم . ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه : قال تقي الدين المقريزي في ( الخطط ) : إن جميع أهل الشرائع ، أتباع الأنبياء ، من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر ، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه ، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم ، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح ، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك ، فأنكروا الطوفان . وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط ، وأن أولاد ( كيومرت ) الذي هم عندهم ( الإنسان الأول ) ، كانوا بالبلاد الشرقية من بابل ، فلم يصل الطوفان إليهم ، ولا إلى الهند والصين . والحقُّ ما عليه أهل الشرائع ، وأن نوحا عليه السلام ، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة ، نزل بهم ، وهم ثمانون رجلاً سوى أولاده ، فماتوا بعد ذلك ، ولم يعقبوا ، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة . ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } [ الصافات : 77 ] . اهـ . ونحوه في ( الكامل ) لابن الأثير . وقال ابن خلدون : اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته ، ذهب بعمران الأرض أجمع ، بما كان من خراب المعمور ، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة ، ولم يعقبوا ، فصار أهل الأرض كلهم من نسله ، وعاد أباً ثانياً للخليقة - انتهى . قال بعضهم ( في تقرير عموم الطوفان ، مبرهناً عليه ) : إن مياه الطوفان قد تركت آثاراً عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة ، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف ، حتى في قمم الجبال ، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية ، بعضها ظاهر على سطحها ، وبعضها مدفون على مقربة منه . واكتشف في الكهوف على عظام حيوانية متخالفة الطباع ، بعيدة الائتلاف ، معها بقايا آلات صناعية ، وآثار بشرية ، مما يثبت أن طوفاناً قادها إلى ذاك المكان ، وجمعها قسراً فأبادها ، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت ، وظلت شهادةً على ما كان ، بأمر الخالق تعالى - انتهى . وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان ، وعموم رسالة نوح ، فأجاب بما صورته : أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان ، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام . وما ورد من الأحاديث ، على فرض صحة سنده ، فهو آحاد لا يوجب اليقين . والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن ، إذا عدّ اعتقادها من عقائد الدين . وأما المؤرخ ، ومريد الاطلاع ، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي ، أو المؤرخ ، أو صاحب الرأي . وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية ، أو عدم الثقة بها ، ولا يتخذ دليلاً قطعياً على معتقد دينيّ . أما مسألة عموم الطوفان في نفسها ، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان ، وأهل النظر في طبقات الأرض . وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم : فأهل الكتاب ، وعلماء الأمة الإسلامية على أن الطوفان كان عاماً لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ، لأن هذه الأشياء مما لا يتكوّن إلا في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عمّ الأرض . ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاماً ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها . غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامّاً لمجرد حكايات عن أهل الصين ، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز . بل على كل من يعتقد بالدين ، أن لا ينفي شيئاً مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها ، وينصرف عنها إلى التأويل ، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد . والوصولُ إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل ، وعناء شديد ، وعلم غزير في طبقات الأرض ، وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى ، نقلية وعقلية . ومن هدى برأيه بدون علم يقيني ، فهو مجازف ، ولا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم . واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عامّاً ، إذ لم يكن العمران قائماً إلا بقوم نوح ، فكان عامّا لهم ، وإن كان من جهةٍ خاصاً بهم ، إذ ليس ثَمَّ غيرُهم ، قال : هبط آدم إلى الأرض ، وهو ليس بأمة إذا مضت عليها قرون ولدت أمما ، بل هو واحد تمضي عليه السنون ، بل القرون ، ونموّ عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلاً قليلاً ، من آدم إلى نوح ثمانية آباء ، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافاً وآلافا ، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام ، وينشروا العمران في تلك الأيام ، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين ! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك ، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان ، من المكان الخاص الذي سبق به البيان ، فلا برهان . وإن كانت في غير ذلك المكان ، فإن لم يكن وضعها إنسان ، كما وجدها إنسان ، كان نقل الجوارح والكواسر لتلك العظام ، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان . بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام ، تعلم أن الطوفان خاصّ عامّ : خاص بمكان ، عامّ سائر المكان - والله أعلم .