Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 110, Ayat: 1-3)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } أي : لدينه الحق على الباطل { وَٱلْفَتْحُ } أي : فتح مكة الذي فتح الله به بينه وبين قومه صلوات الله عليه ، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة { وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً } أي : ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله ، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه ، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجاً طوائف وجماعات لا آحادا ، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة . إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي : فنزه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله . وعن أن يخلف وعده في تأييده . وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين ، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين . والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين ، فلا يذهب عليه رياء المرائين { وَٱسْتَغْفِرْهُ } أي : أسأَله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن ، لتأخر زمن النصر والفتح . والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة . والتوبةُ من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله ، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر ، ولكن الله علم أن نفس نبيّه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال ، فلذلك أمره به ، وكذلك تقاربه قلوب الكمل من أصحابه وأتباعه عليه السلام . والله يتقبل منهم { إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } أي : إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة ، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن . فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشدد همها بحسن الوعد . ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال . وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها . وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم . وكأن الله يقول : إذا حصل الفتح ، وتحقق النصر ، وأقبل الناس على الدين الحق ، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن ، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره ، والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس . فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص . ومن هذا أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه ، فقال فيما روي عنه : إنه قد نعيت إليه نفسه . هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره . تنبيهات الأول : قال ابن كثير : المراد بالفتح ههنا فتح مكة قولا واحداً . فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة . يقولون إن ظهر على قومه ، فهو نبيّ . فلما فتح الله عليه مكة ، دخلوا في دين الله أفواجاً ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً . ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام ولله الحمد والمنة . وقد روى البخاريّ في صحيحه عن عمرو بن سلمة : " كنا بماءٍ ممرَّ الناس . وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم : ما للناس ؟ ما للناس ؟ ما هذا الرجل ؟ فيقولون : يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه ، ( وأوحى الله بكذا ) فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغْرَى في صدري . وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح ، فيقولون : اتركوه وقومه . فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق . فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم " … الحديث . الثاني : قال الرازي : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان : أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان . ونزلت هذه السورة سنة عشر . وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً . ولذلك سميت سورة التوديع . ثانيهما : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه . ونظيره : { إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ } [ القصص : 85 ] وقوله : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع ( إذا جاء ) و ( إذا وقع ) وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات . من حيث أنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له . والإخبار عن الغيب معجزة . انتهى . قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : ولأبي يعلى ، من حديث ابن عمر : نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق ، في حجة الوداع . فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع . ثم قال : وسئلت عن قول الكشاف : إن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق ، فكيف صدرت بـ { إِذَا } الدالة على الاستقبال ؟ فأجبت بضعف ما نقله . وعلى تقدير صحته ، فالشرط لم يتكمل بالفتح . لأن مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل ، فبقية الشرط مستقبل . وقد أورد الطيبي السؤال ، وأجاب بجوابين : أحدهما : أن { إِذَا } قد ترد بمعنى ( إذ ) كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً … } [ الجمعة : 11 ] الآية . ثانيهما : أن كلام الله قديم . وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى . انتهى كلامه . الثالث : قال الشهاب : المراد بـ { ٱلنَّاسَ } العرب . فـ ( أل ) عهدية . أو المراد الاستغراق العرفيّ . والمراد عبدة الأصنام منهم ؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية . الرابع : روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } إلا يقول فيها : " سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " " . وفيه عنها أيضاً : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن " " . قال الحافظ ابن حجر : معنى يتأول القرآن : يفعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار ، في أشرف الأوقات والأحوال . وقال ابن القيّم في ( الهدى ) : كأنه أخذه من قوله تعالى : { وَٱسْتَغْفِرْهُ } لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور . فيقول إذا سلم من الصلاة : أستغفر الله ثلاثاً . وإذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك " . وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ … } [ البقرة : 199 ] الآية .