Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 113, Ayat: 1-5)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } أي : ألوذ به وألتجئ إليه . والفلق فَعَل بمعنى المفعول . كقَصَص بمعنى مقصوص . قال ابن تيمية : كل ما فلقَه الرب فهو فلق . قال الحسن : الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحَب والنوى . قال الزجاج : وإذا تأملت الخلق بَانَ لك أن أكثره عن انفلاق . كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر . وقد قال كثير من المفسرين : الفلق : الصبح . فإنه يقال : هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح . وقال بعضهم : الفلق : الخلق كله . وأما من قال إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم أو أنه اسم من أسماء جهنم ، فهذا أمر لا نعرف صحته . لا بدلالة الاسم عليه ، ولا بنقلٍ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة . بخلاف ما إذا قال : رب الخلق أو رب كل ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار . فإن في تخصيصه هذا بالذكر ، ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به . انتهى وقوله تعالى : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } أي : من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم ، كائناً ما كان من ذوات الطبائع والاختيار . وقوله سبحانه : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال أبو السعود : تخصيص لبعض الشرور بالذكر ، مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة ، لكثرة وقوعه . ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتناء بالاستعاذة ، وأدعى إلى الإعاذة . وقال الإمام ابن تيمية : إذا قيل الفلق يعم ويخص ، فبعمومه استعيذ من شر ما خلق ، وبخصوصه للنور النهاريّ استعيذ من شر غاسق إذا وقب . فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله : { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ } [ الإسراء : 78 ] وهذا قول أكثر المفسرين وأهل اللغة . قالوا : ومعنى { وَقَبَ } دخل في كل شيء . قال الزجاج : الغاسق : البارد . وقيل لليل غاسق ، لأنه أبرد من النهار . وقد روى الترمذي والنسائيّ عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال : " يا عائشة ! تعوذيّ بالله من شره ، فإنه الغاسق إذا وقب " وروي من حديث أبي هريرة مرفوعاً : " الغاسق : النجم " وقال ابن زيد : هو الثريا . وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها . وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولاً آخر ، ثم فسروا وقوبه بسكونه . قال ابن قتيبة : ويقال الغاسق : القمر إذا كسف واسودّ . ومعنى وقب : دخل في الكسوف . وهذا ضعيف . فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره ، وهو لا يقول إلا الحق . وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره . وقد قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] فالقمر : آية الليل . وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل . فأمُره بالاستعاذة من ذلك أمرٌ بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته . والدليلُ مستلزم للمدلول . فإذا كان شر القمر موجوداً ، فشر الليل موجود . وللقمر من التأثير ما ليس لغيره . فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى . ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى : " هو مسجدي " هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعاً . وكذلك قوله عن أهل الكساء : " هؤلاء أهل بيتي " مع أن القرآن يتناول نساءه . فالتخصيصُ لكون المخصوص أولى بالوصف . فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة ، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن ، ما لا تنتشر بالنهار . ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك . فالشر دائماً مقرون بالظلمة . ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم . لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار . ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته . وأبو معشر البلخيّ له ( مصحف القمر ) يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه . انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى . ثم خص تعالى مخلوقات أخر بالاستعاذة من شرها ، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها . فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها ، فقال سبحانه : { وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ } قال ابن جرير : أي : ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها ، وبه قال أهل التأويل . فعن مجاهد : الرقي في عقد الخيط . وعن طاوس : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين . ومثله عن قتادة والحسن . وقال الزمخشري : النفاثات : النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين . والنفث : النفخ مع ريق . ولا تأثير لذلك ، اللهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه ، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه . ولكن الله عزّ وجل قد يفعل عند ذلك فعلا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام ، فينسبه الحشوية والرعاع إليهن وإلى نفثهن . والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبؤون به . فإن قلت : فما معنى الاستعاذة من شرهن ؟ قلت : فيها ثلاثة أوجه : أحدها : أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ، ومن إثمهن في ذلك . والثاني : أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن . الثالث : أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن . انتهى . وفي الآية تأويل آخر ، وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله . قال : النفاثات النساء . والعقد عزائم الرجال وآراؤهم ، مستعار من عقد الحبال . والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبله سهلاً . فمعنى الآية : إن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة . فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن . كقوله : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ } [ التغابن : 14 ] فكذلك عظم الله كيدهن فقال : { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [ يوسف : 28 ] . تنبيه قال الشهاب : نقل في التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلوات الله عليه ، المرويّ هنا ، متروك لما يلزم من صدق قول الكفرة أنه مسحور . وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه . ونقل الرازيّ عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلة . وكيف يمكن القول بصحتها ، والله تعالى يقول : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] . وقال : { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } [ طه : 69 ] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوّة . ولأنه لو صح ذلك ، لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين ، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم ، وكل ذلك باطل . ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور . فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ، ولحصل فيه ، عليه السلام ذلك العيب . ومعلوم أن ذلك غير جائز . انتهى . ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه ، وإن كان مخرجاً في الصحاح . وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد ، سنداً أو معنى . كما يعرفه الراسخون . على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة . قال الإمام الغزاليّ في ( المستصفى ) : ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردّ خبر الواحد . كردّ عليّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعيّ في قصة ( بروع بنت واشق ) وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث . وكردّ عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه . وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وأمثال ذلك مما ذكر . أوردَ الغزاليّ ذلك في مباحث ( خبر الآحاد في شبه المخالفين فيه ) . وذكر رحمه الله في ( مباحث الإجماع ) إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد ، لأدلة ظاهرة قامت عندهم . وقال الإمام ابن تيمية في ( المسوّدة ) : الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده ، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه ، لاعتقاد الرادّ أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا . فإن هذا لا يكفر ولا يفسق . وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً ، فقد ردّ غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث . انتهى . وقال العلامة الفناري في ( فصول البدائع ) : ولا يضلل جاحد الآحاد . والمسألة معروفة في الأصول . وإنما توسعتُ في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأيَ من أكبر رد خبر رواه مثل البخاريّ ، وضلل منكره . فعلمت أن هذا من الجهل بفن الأصول ، لا بل بأصول مذهبه . كما رأيت عن الفناري . ثم قلت : العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاريّ وزناً . وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ . فمتى صادقوه حتى يضللوا مَنْ ردّ خبراً فيه ؟ ؟ وقد برهن على مدعاه ، وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه . وبعد ، فالبحث في هذا الحديث شهير قديماً وحديثاً . وقد أوسع المقال فيه شراح ( الصحيح ) وابن قتيبة في شرح ( تأويل مختلف الحديث ) والرازيّ . والحق لا يخفى على طالبه ، والله أعلم . { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال الزمخشريّ : أي : إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود . لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره ، فلا ضرر يعود منه على من حسده . بل هو الضار لنفسه ، لاغتمامه بسرور غيره .