Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 114, Ayat: 1-6)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } أي : ألجأ إليه وأستعين به ، و ( رب الناس ) الذي يربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره . وهو رب العالمين كلهم والخالق للجميع { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } أي : الذي ينفذ فيهم أمره وحكمه وقضاؤه ومشيئته دون غيره { إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ } أي : معبودهم الحق وملاذهم إذا ضاق بهم الأمر ، دون كل شيء سواه . والإله المعبود الذي هو المقصود بالإرادات والأعمال كلها { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ } أي : الشيطان ذي الوسوسة . وقد زعم الزمخشري ومن تبعه ؛ أن الوسواس مصدر أريد به الموسوس أو بتقدير ( ذي ) . وحقق غير واحد أنه صفة كالثرثار ، وأن فِعلالا ( مصدر فعلل ) بالكسر والمفتوح شاذ ، وقد بسط الكلام في ذلك الإمام ابن القيّم في ( بدائع الفوائد ) { ٱلْخَنَّاسِ } أي : الذي عادته أن يخنس - أي يتأخر - إذا ذكر الإنسان ربه ، لأنه لا يوسوس إلا مع الغفلة . وكلما تنبه العبد فذكر الله ، خنس { ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ } أي : بالإلقاء الخفيّ في النفس . إما بصوت خفيّ لا يسمعه إلا من ألقي إليه ، وإما بغير صوت . قال ابن تيمية : و ( الوسوسة ) من جنس ( الوشوشة ) بالشين المعجمة . يقال ( فلان يوسوس فلانا ) و ( قد وشوشه ) إذا حدثه سراً في أذنه . وكذلك الوسوسة . ومنه وسوسة الحليّ . لكن هو بالسين المهملة ، أخص . وقال الإمام : إنما جعل الوسوسة في الصدور ، على ما عهد في كلام العرب من أن الخواطر في القلب ، والقلب مما حواه الصدر عندهم ، وكثيراً ما يقال : ( إن الشك يحوك في صدره ) وما الشك إلا في نفسه وعقله . وأفاعيل العقل في المخ ، وإن كان يظهر لها أثر في حركات الدم وضربات القلب وضيق الصدر أو انبساطه . وقوله تعالى : { مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } بيان للذي يوسوس ، على أنه ضربان : ضرب من الجِنّة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم ، وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم . وضرب من الإنس كالمضللين من أفراد الإنسان ، كما قال تعالى : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] . وإيحاؤهم هو وسوستهم . قال ابن تيمية : فإن قيل : فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس ، فلا حاجة إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس ، فإنه تابع لوسواس الجن . قيل : بل الوسوسة نوعان : نوع من الجن ، ونوع من نفوس الإنس . كما قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] فالشر من الجهتين جميعاً . والإنس لهم شياطين كما للجن شياطين . وقال أيضاً : الذي يوسوس في صدور الناس نفسه لنفسه ، وشياطين الجن وشياطين الإنس . فليس من شرط الموسوس أن يكون مستتراً عن البصر ، بل قد يُشَاهَد . لطائف الأولى : قال ابن تيمية : إنما خص الناس بالذكر ، لأنهم المستعيذون . فيستعيذون بربهم الذي يصونهم ، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم وبإلهِهِم الذي يعبدونه من شر الذي يحول بينهم وبين عبادته . ويستعيذون أيضاً من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس منهم ومن الجِنّة . فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم . وقال الناصر : في التخصيص جرى على عادة الاستعطاف ، فإنه معه أتمّ . الثانية : تكرر المضاف إليه وهو { ٱلنَّاسِ } باللفظ الظاهر ، لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة . فإن الإظهار أنسب بالإيضاح المسوق له عطف البيان . وأدل على شرف الإنسان . وقيل : لا تكرار . لجواز أن يراد بالعام بعض أفراده . فـ : { ٱلنَّاسِ } الأُوَل : بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية . والثاني : الكهول والشبان ، لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم . والثالث : الشيوخ لأنهم المتعبدون المتوجهون لله . قال الشهاب : وفيه تأمّل . الثالثة : في تعداد الصفات العليا هنا ، إشارة إلى عظم المستعاذ منه . وأن الآفة النفسانية أعظم من المضار البدنية ، حيث لم يكرر ذلك المستعاذ به في السورة قبل ، وكرره هنا إظهاراً للاهتمام في هذه دون تلك . نقله الشهاب . الرابعة : قال ابن تيمية : الوسواس من جنس الحديث والكلام . ولهذا قال المفسرون في قوله : { مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] قالوا : ما تحدَّث به نفسه . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لأمتي ما تحدَّث به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به " وهو نوعان : خبر وإنشاء . فالخبر إما عن ماض وإما عن مستقبل . فالماضي يذكره والمستقبل يحدثه ، بأن يفعل هو أموراً ، أو أن أموراً ستكون بقدر الله أو فعل غيره . فهذه الأمانيّ والمواعيد الكاذبة . والإنشاء أمر ونهي وإباحة . الخامسة : قال ابن تيمية : الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة . فإن كان مما ألقى في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى لله ، فهو من الإلهام المحمود . وإن كان مما دلّ على أنه فجور ، فهو من الوسواس المذموم . وهذا الفرق مطرد لا ينقض . وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان ، فقال : ما كرهته نفسك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه . وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه . السادسة : قال الإمام الغزاليّ في ( الإحياء ) في بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب عند كل ركن وشرط من أعمال الصلاة ، ما مثاله : وإذا قلت : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل ، حسداً لك على مناجاتك مع الله عز وجل ، وسجودك له . مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفق لها . وإن استعاذتك بالله سبحانه منه ، بترك ما يحبه ، وتبديله بما يحب الله عز وجل ، لا بمجرد قولك . فإن من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو ليقتله فقال : ( أعوذ منك بهذا الحصن الحصين ) وهو ثابت على مكانه ذلك لا ينفعه ، بل لا يفيده إلا بتبديل المكان . فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن ، فلا يغنيه مجرد القول ، فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان . وحصنُه ( لا إله إلا الله ) إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم . " لا إله إلا الله حصني . فمن دخل حصني أمِنَ من عذابي " والمتحصن منه من لا معبود له سوى الله سبحانه . فأما من اتخذ إلهه هواه ، فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عز وجل . انتهى . وملخصه : أن التعوّذ ليس هو مجرد القول ، بل القول عبارة عما كان للمتعوذ من ابتعاده بالفعل عما يتعوذ منه ، فكان ترجمة لحالهم . وهذا المعنى كان يلوح لي من قبل أن أراه في كلام حجة الإسلام ، حتى رأيته ، فحمدت الله على الموافقة . السابعة : قال الإمام الغزاليّ في ( الإحياء ) أيضاً ، في بيان تسلط الشيطان على القلب بالوسواس : ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها ، ما مثاله : اعلم أن القلب في مثال قبة مضروبة لها أبواب تنصبّ إليه الأحوال من كل باب . ومثاله أيضا مثال هدف تنصبّ إليه السهام من الجوانب . أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف السور المختلفة ، فتتراءى فيها صورة ولا يخلو منها . أو مثال حوض تنصبّ فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه . وإنما مدخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال ، إما من الظاهر فالحواس الخمس . وإما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان . فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب . وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل وسبب قوة المزاج ، حصل منها في القلب أثر . وإن كف عن الإحساس ، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء . وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر . والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في الخواطر - وأعني الخواطر : ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار - وأعني به إدراكاته علوماً ، إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر . فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها . والخواطر : هي المحركات للإرادات . فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنويّ بالبال لا محالة . فمبدأ الأفعال الخواطر . ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم ، والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الأعضاء . والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو للشر ، أعني : إلى ما يضر في العاقبة . وإلى ما يدعو إلى الخير ، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة . فهما خاطران مختلفان . فافتقرا إلى اسمين مختلفين . فالخاطر المحمود يسمى : إلهاماً والخاطر المذموم ، أعني الداعي إلى الشر يسمى : وسواساً . ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة . ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث . ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب . هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب . فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم سقفه واسودّ بالدخان ، علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة . وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان . فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى : ملَكاً . وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى : شيطاناً . واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخبر يسمى : توفيقاً . والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى : إغواءً وخذلاناً . فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامٍ مختلفة . والملك عبارة عن خلقه الله تعالى ، شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف . وقد خلقه وسخره لذلك . والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك ، وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير ، بالفقر . فالوسوسة في مقابلة الإلهام . والشيطان في القابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان . ثم قال الغزاليّ : ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر سوى ما يوسوس به . لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان من قبل . ولكن كل شيء سوى الله تعالى ، وسوى ما يتعلق به ، فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان . وذكر الله تعالى هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أن ليس للشيطان فيه مجال . ولا يعالج الشيء إلا بضده . وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبرؤ عن الحول والقوة ، وهو معنى قولك : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى . وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة . قال الله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] . ثم قال : فالوسوسة هي هذه الخواطر . والخواطر معلومة . فإذن الوسواس معلوم بالمشاهدة . وكل خاطر فله سبب ، ويفتقر إلى اسم يعرّفه . فاسم سببه الشيطان . ولا يتصور أن ينفك عنه آدميّ . وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته . فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام ، والملك والشيطان والتوفيق والخذلان . انتهى .