Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 106-109)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما بيّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين ، في المحاماة عن الدين ، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى ، من الوعد الشديد ، بهذه الآيات . واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله . فإنه إذا وافق المشركين بلفظ ، لإيلامٍ قويٍ وإيذاء شديد وتهديد بقتل ، فلا جناح عليه . إنما الجناح على من شرح بالكفر صدراً أي : طاب به نفساً واعتقده ، استحباباً للحياة الدنيا الفانية ، أي : إيثارا لها على الآخرة الباقية ، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة ، من غضب الله عليهم أولاً . وعذابه العظيم لهم ، وهو عذاب النار ثانياً . وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثاً . ورابعاً بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها . فلم ينفتح لهم طريق الفهم . وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب . فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور . ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع . وخامساً بكونهم هم الغافلين ، بالحقيقة ، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه . وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب . وجليٌّ ، أن كل نقمة من هذه الخمس ، على انفرادها ، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات . فكيف بها كلها ! . قال الرازيّ : ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة . فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه . فلهذا قال : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } أي : الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات . تنبيهات الأول : { مَن } في قوله تعالى : { مَن كَفَرَ } موصول مبتدأ خبره { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وقوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } استثناء مقدم من حكم الغضب . وقوله : { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } رجوع إلى صدر الآية وحكمها ، بأسلوب مبيّن لمن كفر ، موضح له . بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير . وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن . الثاني : استدل بالآية على أن المكره غير مكلف . وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان . واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه ، إلاّ ما استثنى . أفاده السيوطيّ في ( الإكليل ) . الثالث : روي عن ابن عبا ؛ أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذَّبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم . فوافقهم مكرهاً . ثم جاء معتذراً . قال ابن جرير : " أخذ المشركون عماراً فَعَذَّبوه . حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال له : " كيف تجد قلبك ؟ " قال : مطمئناً بالإيمان . قال صلى الله عليه وسلم : " إن عادوا فَعُدْ " " . وقال ابن إسحاق : إن المشركين عَدَوْا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه . فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحرّ ، يفتنونهم عن دينهم . فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يَصْلُبُ لهم ويعصمه الله منهم . وكان بلال رضي الله عنه عبداً لبعض بني جُمَح ، يخرجه أمية بن خلف ، إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة . ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره . ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى . فيقول ( وهو في ذلك البلاء ) : أحدٌ . أحدٌ ، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه . وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، رضي الله عنهم ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة . فيمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقول : " صبراً آل ياسر ، موعدكم الجنة " فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام . قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم . والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة . حتى يقولوا : اللات والعزّى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم . حتى إن الجُعَل ليمر بهم فيقولون له : هذا الجُعل إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم . افتداءً منهم ، مما يبلغون من جَهدْه . وقد ذكر ابن هشام في ( السيرة ) في بحث ( عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة ) غرائب في هذا الباب ، فانظره . قال ابن كثير : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي ، إبقاء لمهجته . ويجوز له أن يأبى . كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ، وهو يفعلون به الأفاعيل ، وهو يقول أحدٌ . أحدٌ ، ويقول : والله ، لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي الله عنه وأرضاه . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاريّ ، لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع . فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك . وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهميّ ، أحد الصحابة ، أنه أسرته الروم . فجاءوا به إلى ملكهم . فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ، ما فعلت . فقال : إذا أقتلك . فقال : أنت وذاك ، فأمر به فصلب . وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل . ثم أمر بقِدْرٍ فأُحميت . وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى . فأمر به أن يلقى فيها ، فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تلقى في هذا القدر الساعة ، فأحببت أن يكون لي ، بعدد كل شعرة في جسدي ، نفس تعذب هذا العذاب في الله . وفي بعض الروايات ؛ أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياماً . ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه . ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما هو فقد حلَّ لي . ولكن لم أَكن لأشَمتكَ فيَّ . فقال له الملك : فقبِّل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين . قال : فقبَّل رأسه . فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة . وأنا أبدأ . فقام فقبل رأسه .