Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 112-113)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضاً بالجوع والخوف . ومعنى قوله تعالى : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } أي : جعل القرية التي هذه حالها مَثَلاً لكل قوم أنعم الله عليهم . فأبطرتهم النعمة . فكفروا وتولوا . فأنزل الله بهم نقمته . فيدخل فيهم أهل مكة دخولاً أولياً ، أو لقوم معينين ، وهم أهل مكة . والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معينة ، إذ لا يلزم وجود المشبه به . أو معينة من قرى الأولين . وقد ضمن { ضَرَبَ } معنى ( جعل ) و { مَثَلاً } مفعول ثانٍ و { قَرْيَةً } مفعول أول . قال أبو السعود : وتأخير ( قرية ) مع كونها مفعولاً أول ، لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها . إذ التأخير عن الكل مخلّ بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها . ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقباً لوروده ، وتشوقاً إليه . لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه . فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل . فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن . والمراد بالقرية أهلها مجازا ، أو بتقدير مضاف . ومعنى كونها { آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } أنه لا يزعجها خوف . و ( الرغد ) الواسع . و ( الأنعم ) جمع نعمة . وفي قوله تعالى : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم ، باللباس الغاشي للابس . فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة ، لمطلق الإيصال ، المنبئة عن شدة الإصابة ، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة ، على نهج التجريد . فإنها لشيوع استعمالها في ذلك ، وكثرة جريانها على الألسنة ، جرت مجرى الحقيقة . قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة . فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف ، كما قال تعالى : { وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] وهكذا قال ههنا و { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً } أي : هَنِيئاً سَهّلاً { مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } أي : جحدت آلاَءَ الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم . كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ } [ إبراهيم : 28 - 29 ] ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال : { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } أي : ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها من كل مكان . وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبوا إلا خلافه . فدعا عليهم بسبعٍ كسبع يوسف . فأصابتهم سنة أذهبت كل شيءٍ لهم . فأكلوا العلهز ( هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر ) . وقوله : { وَٱلْخَوْفِ } وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوته وسراياه وجيوشه . وجعل كل ما لهم في دمار وسفال . حتى فتحها الله عليهم . وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم . الذي بعثه الله فيهم منهم . وامتن به عليهم في قوله : { لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } الآية [ آل عمران : 164 ] وقوله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً } [ الطلاق : 10 - 11 ] ، وقوله : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 151 - 152 ] وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ، بدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمناً . ورزقهم بعد العيلة . وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم . انتهى . ثم بين تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها ، مفصلا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم ، وهو مأذون بأكله ، كما قال : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ … } .