Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 76-76)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً } أي : مثلاً آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح { رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } أي : أخرس { لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } أي : مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه : { وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ } أي : ثقيل على من يلي أمره ، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أي : حيث يرسله في أمر لاَ يأْتِ بنجحه وكفاية مهمه { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } أي : ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس ، بحثّهم على العدل الشامل لجميع الفضائل . { وَهُوَ } أي : في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : على سيرة صالحة ودين قويم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله . قال الأزهريّ : ضرب تعالى مثلاً للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيءٍ ، فهو كَلٌّ على مولاه ؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوّله من مكان إلى مكان . فقال الله تعالى : هل يستوي هذا الصنم الكل ، ومن يأمر بالعدل ؟ استفهام معناه التوبيخ ، كأنه قال لا تسووا بين الصنم الكلِّ وبين الخالق جل جلاله . انتهى . وإليه أشار الزمخشريّ بقوله : وهذا مثل ضربه الله لنفسه ، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية ، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع . انتهى . وناقش الرازيّ في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع ، يمنع من حملها على الوثن ، وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم ، يمنع من حمله على الله تعالى . انتهى . وقد يقال في جوابه : بأن الأوصاف الأُوَل ، وإن كانت ظاهرة في الإنسان ( والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة ) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن ؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى ، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما ، لما فيه من صفات النقص . وأما الوصف في قوله : { عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فكقوله تعالى : { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] فصح الحمل . ثم رأيت للإمام ابن القيّم في ( أعلام الموقعين ) ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال ، في بحث أمثال القرآن ، في هذين المثلين ما صورته : فالمثل الأول : يعني قوله تعالى : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً } [ النحل : 75 ] الآية ، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان . فالله سبحانه هو المالك لكل شيء . ينفق كيف يشاء على عبيده سراً وجهراً وليلاً ونهاراً . يمينه ملأى لا يغيضها نفقة . سحّاء الليل والنهار . والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يجعلونها شركاء إليّ ويعبدونها من دوني ، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين ؟ هذا قول مجاهد وغيره . وقال ابن عباس : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه حسناً فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً . والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء ؛ لأنه لا خير عنده . فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟ والقول الأول أشبه بالمراد . فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب ، وأعظم في إقامة الحجة وأقرب نسباً بقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ ٱلأَمْثَالَ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 73 - 74 ] ثم قال : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقاً حسناً . والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء . فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه . فذكره ابن عباس منبهاً على إرادته . لا أن الآية اختصت به . فتأمله فإنك تجده كثيراً في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن . فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره ، فيحكيه قوله . وأما المثل الثاني : فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا . فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق . بل هو أبكم القلب واللسان . قد عدم النطق القلبيّ واللسانيّ ، مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة . وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير . ولا يقضي لك حاجة . والله سبحانه حيٌّ قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد . فإن أمره بالعدل ، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له ، راض به آمر لعباده به ، محب لأهله لا يأمر بسواه ، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل . بل أمره وشرعه عدل كله . وأهل العدل هم أولياءه وأحباؤه . وهم المجاورون له عند يمينه ، على منابر من نور . وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعيّ الدينيّ ، والأمر القدريّ الكوني . وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه . كما في الحديث الصحيح : " اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك " فقضاؤه هو أمره الكونيّ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فلا يأمر إلا بحق وعدل . وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل . وإن كان في المقضيّ المقدر ما هو جور وظلم . فالقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدّر . ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم وهذا نظير قول رسوله شعيب : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] وقوله : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } نظير قوله ( نَاصِيَتِيِ بِيَدِكَ ) وقوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } نظير قوله : " عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ " . فالأول ملكه . والثاني حمده . وهو سبحانه له الملك وله الحمد . وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالعدل ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل . فهو على الحق في أقواله وأفعاله . فلا يقضي على العبد بما يكون ظالماً به ولا يؤخذ بغير ذنبه . ولا ينقصه من حسناته شيئاً . ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئاً . ولا يؤاخذ أحداً بذنب غيره ، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة . فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله . قال محمد بن جرير الطبريّ : وقوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يقول : إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته . لا يظلم أحدا منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به . ثم حكى عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } قال : الحق . وكذلك رواه ابن جريج عنه . وقالت فرقة : هي مثل قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [ الفجر : 14 ] وهذا اختلاف عبارة . فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . وقالت فرقة : في الكلام حذف تقديره : إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه . وهؤلاء إن أرادوا أنَّ هذا معنى الآية التي أريد بها ، فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر . وقد فرق سبحانه بين كونه آمراً بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم . وإن أرادوا أنَّ حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم ، فقد أصابوا . وقالت فرقة أخرى : معنى كونه على صراط مستقيم أن مَرَدّ العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك . وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه ، فهو حق . وقالت فرقة أخرى : معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته . وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية . وقد فرَّق شعيب بين قوله : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } [ هود : 56 ] ، وبين قوله : { إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] . فهما معنيان مستقلان . فالقول قول مجاهد ، وهو قول أئمة التفسير . ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز : @ أمير المؤمنين على صراطٍ إذا اعوجَّ المواردُ مستقيمِ @@ وقد قال تعالى : { مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 39 ] . وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم ، فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله . وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره ، فصراطه الذي هو سبحانه عليه ، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله ، وبالله التوفيق . وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء : إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر . وقد تقدم ما في هذا القول وبالله التوفيق . انتهى بحروفه .