Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 43-44)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ سُبْحَانَهُ } فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم ، من حيث لا يحتسبون . وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب ، فليس مما يختص بهذا التقرير ، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون . بل هو أمر يعتقدونه رأساً . انتهى . ومعنى { سُبْحَانَهُ } أي : تنزه عن الولد والشريك تنزها حقيقاً به { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } أي : تعاظم عن ذلك تعاظماً كبيراً . فإن مثل هذه الفرية والبهتان ، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى . قال الشهاب : وذكرُ العلوّ ، بعد عنوانه بـ { ذِي ٱلْعَرْشِ } [ الإسراء : 42 ] ، في أعلى مراتب البلاغة . وقوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } أي : تُنزِّه الله ، وتقدسُهُ وتجلُّهُ السماواتُ والأرضُ ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون . وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته ، كما قال : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [ مريم : 90 - 91 ] وقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي : لأنها بخلاف لغاتكم . قال ابن كثير : وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، على أشهر القولين . ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام والحصا ، مِمَّا خرج في الصحيحين والمسانيد ، مما هو مشهور . واختاره الراغب في ( مفرداته ) وقال : إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ودلالة قوله : { وَمَن فِيهِنَّ } بعد ذكر السماوات والأرض ، لا يصح أن يكون تقديره ( يسبح له من في السماوات ويسجد له من في الأرض ) لأن هذا من نفقهه ، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره ، ثم يعطف عليه بقوله : { وَمَن فِيهِنَّ } والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار . والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار ، لما ذكر من الدلالة . انتهى . وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازيّ ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية . كـ ( نطقت الحال ) . فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود منزه عن الولد والشريك ، كما يدل الأثر على مؤثره . فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنها تنزيه له عما يخالفه . @ وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد @@ قالوا : والخطاب في قوله تعالى : { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } للمشركين . أي : لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم . وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني ، الإمام ابن حزم في كتابه ( الملل والنحل ) ولا بأس بإيراده ، لما فيه من الغرائب . قال رحمه الله في الرد على من قال : ( إن في البهائم رسلاً ) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها . قال الله تعالى : { يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 179 ] وقد علمنا بضرورة الحس ؛ أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسانَ خاصة . وأضفنا إليهم ، بالخبر الصادق ، الجن والملائكة . ثم قال رحمه الله : وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزاً لمثل قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } ونحوه من الآيات . ولا حجة لهم فيه ؛ لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن خالف ذلك كان عاصياً لله عز وجل ، مبدلاً لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن ، أو ضرورة حسّ على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلك . وبكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسباً الكذب إلى الله عز وجل ، أو كاذبا عليه وعلى نبيّه عليه السلام ، نعوذ بالله من كلا الوجهين . وإذ قد بينا قبلُ بالبراهين الضرورية ؛ أن الحيوان ( غير الإنس والجن والملائكة ) . لا نطق له . نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات . وكان هذا القول مشاهداً بالحس معلوما بالضرورة ، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسه ، وبيّنا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا ، فإنه ليس تمييزا . وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة - فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقاً وقولاً وتسبيحاً وسجودا . فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها . وأما معانيها فمختلفة ، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ؛ لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى ، ولولاه ما عرفناه . فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه . بيان ذلك : أن التسبيح عندنا إنما هو قول ( سبحان الله وبحمده ) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوامّ والحشرات والألوان لا تقول : ( سبحان الله بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء ) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل . فإذ لا شك في هذا ، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك . فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء . فإذ قد صح هذا ، فإن كل شيء في العالم بلا شك منزَّه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث . وليس في العالم شيء إلا وهو دالّ ( بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعاً لا يشبهه ) على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص . وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس كما قال تعالى { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك . وهذا المعنى حق لا ينكره موحد . فإن كان قولنا هذا متفقاً على صحته . وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه . وأيضاً فإن الله تعالى يقول : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } والكافر الدهريّ شيء لا يشك في أنه شيء وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة فصح ضرورة أن الكافر يسبح ؛ إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى . وإن تسبيحه ليس هو قوله : ( سبحان الله وبحمده ) بلا شك . ولكن تنزيه الله تعالى بدلائل خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق وهذا يقيني لا شك فيه . فصح بما ذكرنا أن لفظة ( التسبيح ) هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا . انتهى كلامه . ومحصله نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان . وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره . إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه . فيرجع الخلاف لفظياً . وقد وافق العلم الحديث الآن - كما قاله بعض الفضلاء - على أن في الجماد أثراً من الحياة . وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء . وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة ، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب والدفع ، والتأثر بالمؤثرات الخارجية ، وتغير قوة التوازن ، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة ، طبقاً لتراكيب محدودة . وإفراز مركبات كيماوية مختلفة . وبالجملة ؛ فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك . انتهى . وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } أي : حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، مع كفرهم وقصورهم في النظر . ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم . ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم ، حينما يقرؤه عليهم الرسول ، صلوات الله عليه ، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه ، بقوله تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ … } .