Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 78-78)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } لما ذكر تعالى ، قبلُ ، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض ، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى ، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم ، وتأييده عليهم . ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } [ الحجر : 97 - 98 ] وقوله : { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [ طه : 130 ] وقوله : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [ البقرة : 45 ] هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها . وأما معناها ، فقوله : { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } أي : لزوالها . قال ابن تيمية : الدلوك الزوال عند أكثر السلف وهو الصواب . واللام للتأقيت . أي : بيان الوقت بمعنى ( بعد ) وتكون بمعنى ( عند ) أيضاً . وقيل : للتعليل ؛ لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة . وأما : { غَسَقِ ٱلَّيلِ } ، فهو اجتماع الليل وظلمته . وأما { قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } . فهو صلاة الصبح . سميت قرآنا لأنه ركنها . كما سميت ركوعاً وسجوداً . فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهمّ . فيدل على وجوب القراءة فيها صريحاً ، وفي غيرها بدلالة النص والقياس . ومعنى : { مَشْهُوداً } يشهده ملائكة الليل والنهار . ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء . فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار . أو يشهده الكثير من المصلين في العادة ! ومن حقه أن يكون مشهوداً بالجماعة الكثيرة . والأكثرون على أن قوله تعالى : { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } منصوب بالعطف على ( الصلاة ) أي : وأقم صلاة الفجر . وجوَّز بعض النحاة نصبه على الإغراء . أي : وعليك قرآن الفجر أو الزم . تنبيهات الأول : هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها ، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولا واحداً . وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولاً واحداً وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر . قيل : هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر . والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء . فيدل على جواز الجمع مطلقاً بين الأولين ، وكذا بين الأخيرين . فالجواب : هو كذلك بعذر السفر أو المطر ونحوها . وأما في غيرها فلا . وذلك لما بينته السنة من فعل كل واحدة في الوقت الخاص بها ، إلا بعذر . قال الحافظ ابن كثير : قد بينت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله ، تفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم ، مما تلقوه خلفا عن سلف ، وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه . وقال العلامة أبو السعود : ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار ، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام . كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام . ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهي في أوقات الصلوات من غير فصل بينها ، لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة . فبعضها متصل ببعض ، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ، ينقطع أحدهما عن الآخر ؛ ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات . انتهى . والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقاً هذه الآية ، مع أثر ابن عباس . جاء في ( رحمة الأمة ) ما مثاله : وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة ما لم يتخذه عادة . واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض . انتهى . وقد روى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعا وثمانيا : الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء . ومن رواية لمسلم : صلى الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً ، من غير خوف ولا سفر . وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة . والمسألة شهيرة . الثاني : قلنا : إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس ، ومنها قوله تعالى : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } [ هود : 114 ] فالطرف الأول صلاة الفجر فإن صلاة الفجر في النهار . فإن الصائم يصوم النهار . وهو يصوم من طلوع الفجر . والوتر تصلى بالليل ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة " وإذا قيل : نصف النهار ، فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس . فهذا في هذا الموضوع ، ولفظ { ٱلنَّهَارِ } يراد به من طلوع الفجر ، ويراد به من طلوع الشمس . لكن قوله : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } [ هود : 114 ] أريد به من طلوع الفجر بلا ريب ؛ لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة ، بل ولا مستحبة . بل الصلاة في أول الطلوع منهيٌّ عنها حتى ترتفع الشمس . وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض ؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه . فعلم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر . وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب . فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه ، ثم قال : { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } [ هود : 114 ] فأجمل المغرب والعشاء في { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } وهي ساعات من الليل . فالمواقيت هنا ثلاثة . وقال تعالى : { لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ } [ النور : 58 ] فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء . فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة . وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت . وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [ الروم : 17 - 18 ] فتبين أن له التسبيح والحمد في السماوات والأرض ، حين المساء وحين الصباح وعشيّاً وحين الإظهار . فالمساء ، يتناول المغرب والعشاء ، والصباح يتناول الفجر ، والعشيّ يتناول العصر . والإظهار يتناول الظهر . وقال تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [ طه : 130 ] وفي الآية الأخرى : { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ * وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } [ ق : 39 - 40 ] فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر . وقبل غروبها هي العصر . وبذلك فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال : كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر . فإن استطعتم أن لا تغلُبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا " ثم قرأ قوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [ طه : 130 ] وقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ } [ الإسراء : 79 ] { وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ } [ طه : 130 ] مطلق في آناء الليل ، يتناول المغرب والعشاء . أفاد ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في فتواه في ( المواقيت الكبرى ) . الثالث : هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها . قال ابن تيمية ، عليه الرحمة ، في فتواه المتقدمة : وقت الصلاة وقتان : وقت الرفاهية والاختيار . ووقت الحاجة والعذر . فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما في صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله . ووقت العصر ما لم تصفّر الشمس . ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق . ووقت العشاء إلى نصف الليل . ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس " وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن . ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في المواقيت حديث من قوله إلا هذا . وسائر ما روي فعل منه ، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث . ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث . والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر ، وأول وقت العصر وآخره ، وآخر وقت المغرب ، وآخر وقت العشاء وآخر وقت الفجر . فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز ، وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله . سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة : إلى أن يصير ظلّ كل شيء مثليه ، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور . وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه ، ونقل عنه ، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتاً لا للظهر ولا للعصر . وعلى قول الجمهور ، فهل آخر هذا أول هذا أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك ؟ فيه نزاع . فالجمهور على الأول ، والثاني منقول عن مالك . وإذا صار ظل كل شيء مثليه ، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد . وهو منقول عن مالك والشافعيّ مع خلاف في مذهبهما . والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس . وهو الرواية الثانية عن أحمد . كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو ، مما عمل به النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، بعد عمله بمكة . وهذا قول أبي يوسف ومحمد . فلم يكن للعصر وقت متفق عليه . ولكن الصواب المقطوع به ، الذي تواترت به السنن واتفق عليه الجماهير ؛ أن وقتها يدخل إذا صار ظل كل شيء مثله . وليس مع القول الآخر نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا صحيح ولا ضعيف . ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة ، لمَّا اعتادوا تأخير الصلاة ، واشتهر ذلك ، صار يظن من يظن أنه السنة . وقد احتج له بالمثل المضروب المسلمين وأهل الكتاب . ولا حجة فيه لاتفاق أهل الحساب على أن وقت الظهر أطول من وقت العصر ، الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثليه . وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة : من الزوال إلى الغروب . ومن الغروب إلى الفجر . ومن الفجر إلى طلوع الشمس . فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر . واتسع فيها وفيهما من وجهين : أحدهما تقديم العصر إلى وقت الظهر ، كما قدمها النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة . وكما كان يقدمها في سفرة تبوك . إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس . وتقدم العشاء إلى المغرب في المطر . فهذا جمع تقديم . والثاني جمع تأخير ، العصر فيها إلى الغروب . لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر . ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " وقت العصر ما لم تصفّر الشمس " وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار . ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب . وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ } [ البقرة : 238 ] وهذا مذهب مالك والشافعيّ ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه . وقيل : يخير حال القتال في التأخر والصلاة في الوقت بحسب الإمكان وهو الرواية الأخرى عنه . وقيل بل يؤخرها . وهو قول أبي حنيفة أيضاً . ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق . يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا " فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر . فدل على المنع من هذا وهذا . فلما قال صلى الله عليه وسلم هذا وهذا ، علم أن الوقت وقتان . فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقاً . وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت ، مع إمكان الصلاة قبله . بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك . كالحائض إذا طهرت . والمجنون يفيق . والنائم يستيقظ . والناسي يذكر . ودل تقديم العصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب الزوال . ودل هذا الحديث على أنها يُدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل الغروب . مع أنه بيّن بقوله وفعله ؛ أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله . ما لم تصفر الشمس . فدل ذلك على أن هذا الوقت المختص بها ، وقت مع التمكن والرفاهية . ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه . وقد عرف من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس ؛ أنهم قالوا : ( في الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس ) : تصلي الظهر والعصر . وإذا طهرت قبل طلوع الفجر ، صلت المغرب والعشاء . ولم يعرف عن صحابيّ خلاف ذلك . وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعيّ وأحمد . وهذا مما يدل على أنه كان الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر . والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب . كما دل على ذلك السنة والقرآن - يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل - والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها ، يقولون : الفرض إنما ثبت بالقرآن . والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [ الأعلى : 14 - 15 ] فلا موجب لخصوص التكبير عندهم . بل مطلق الذكر . وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلّ قط إلا بتكبير . ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يُعْرَف أنه صلى إلا بتكبير . ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر ؛ لأن القرآن مطلق في الذكر فيقال لهم : القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل . ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني ، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا ، لو قُدّر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم داوم على التفريق ، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة ؟ كذلك يقولون : قوله تعالى : { ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ } [ الحج : 77 ] مطلق . فهو الفرض . والطمأنينة إنما جاء بها خبرُ واحدٍ . فيفيد الوجوب دون الفريضة . وكذلك يقولون في الفاتحة : إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه ، مع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين من بعده لم يصلّوا إلا بالفاتحة . ومع قوله : " لا صلاة إلا بأمّ القرآن " و " إن كل صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج . فهي خداج " ويقولون : هذا يفيد الوجوب دون الفرضية . أو هذا خبرُ واحدٍ فلا يقيد به مطلق القرآن . ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا ، وليس معهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب فعل كل واحد من الأربع في الوقت الخاص إلا فعله المتواتر ، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد . مع ما فيه من الإجمال ، كقوله لما بين المواقيت الخمسة " الوقت ما بين هذين " وقوله : " ما بين هذين وقت " دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله : " لا صلاة إلا بأمّ الكتاب " ، وقوله : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج " وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة " ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية بقوله صلى الله عليه وسلم : " فصلوا الصلاة لوقتّها " وهو الوقت الذي بيّنه لهم . والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ، ولا صلاة الليل إلى النهار . وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار . ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل ؛ لأنهم سألوه عن الأمراء أنقاتله ؟ قال : " لا . ما صلوا " وهذه كانت صلاتهم . ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال وتفويت يوم الخندق منسوخ . وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت بالسنة في مواضع متعددة . وبعضها مما أجمع عليه المسلمون ، والآثار المشهورة عن الصحابة تبيّن أن الوقت المشترك وقت في حال العذر . كقول عمر بن الخطاب : ( الجمع بين الصلاتين ، عن غير عذر ، من الكبائر ) فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز . وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة ( فيمن طهرت في آخر النهار ) : إنها تصلي الظهر والعصر . ( وفيمن طهرت في آخر الليل ) : إنها تصلي المغرب والعشاء . وهو قول الثلاثة : مالك والشافعيّ وأحمد ، وأما التفويت فلا يجوز بحال . فمن جوز التفويت في بعض الصور ، فقوله ضعيف ، وإن جوز الجمع . وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع ، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين : بين إباحة ما حرمه الله ورسوله ، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله . فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت . فهذا الأصل ينظم كثيراً من المواقيت . وتفويت العصر إلى حين الاصفرار ، وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضاً ، لا يجوز إلا لضرورة ، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت ، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة . وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره . وقالوا : لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار . بل إذا لم يجد الماء إلا فيه ، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار ، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء . انتهى كلامه عليه الرحمة .