Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 117-117)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : مبدعهما وخالقهما على غير مثال سبق . وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له : أبدعت . ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة : مبتدع ، لأنه يأتي في دين الإسلام ، ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم . وهذه الجملة حجة أخرى لدفع تشبثهم في ولادة عيسى بلا أب . وعلم عزير بالتوراة بلا تعلم . وتقرير الحجة : إن الله سبحانه مبدع الأشياء كلها . فلا يبعد أن يوجد أحداً بلا أب ، أو يعلم بلا واسطة بشر . وقال الراغب : ذكر تعالى في هذه الآية حجة رابعة . شرحها : إن الأب هو عنصر للابن منه تكون . والله مبدع الأشياء كلها ، فلا يكون عنصراً للولد ، فمن المحال أن يكون المنفعل فاعلاً . وقوله تعالى : { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : إذا أراد أمراً . والقضاء إنفاذ المقدَّر . والمقدر ما حد من مطلق المعلوم . قال الراغب : القضاء إتمام الشيء قولاً أو فعلاً . فمن القول آية { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] . { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ } [ الإسراء : 4 ] ومن الفعل قوله : { فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 12 ] وقضى فلان دينه ، وقضى نحبه ، وانقضى الأمر . ثم قال : ونبّه بقوله : { وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } على حجة خامسة وهو أن الولد يكون بنشوء وتركيب ، حالاً بعد حال ، وهو إذا أراد شيئاً ، فقد فعل بلا مهلة . ولم يرد بـ { إِذَا } حقيقة الزمان ، إذ كان ذلك إشارة إلى ما قبل وجود الزمان . ولم يرد أيضاً بـ : { كُنْ } حقيقة اللفظ ، ولا بالفاء التعقيب الزماني . بل استعير كل ذلك لأنه أقرب ما يتراءى لنا به سرعة الفعل وتمامه . وذكر لفظ القضاء إذ هو لإتمام الفعل ، والأمر لكونه منطوياً على اللفظ والفعل ، والقول إذ هو أخف موجد منا وأسرعه إيجاداً ، ولفظ { كُنْ } لعموم معناه واختصار لفظه ، ثم قال : { فَيَكُونُ } تنبيهاً لأنه لا يمتنع عليه شيء يريد إيجاده ، و { كُنْ فَيَكُونُ } وإن كان مخرجها مخرج شيئين ، أحدهما مبني على الآخر ، فهو في الحقيقة شيء واحد . انتهى . والذين ذهبوا إلى أن المراد بـ { كُنْ } حقيقة اللفظ ، ورد عليهم سؤال مشهور . وهو : إن { كُنْ } لفظ أمر ، والأمر لا يكون إلا لموجود . فبعضٌ أجاب بأنه أمر للشيء في حال تكونه لا قبله ولا بعده . وبعضٌ قال : هو أمر لمعلوم له ، وذلك في حكم الموجود وإن كان معدوم الذات . وبعضٌ قال : هو أمر للمعدوم . قال ويصح أمر المعدوم كما يصح أمر الموجود . ولهم أجوبة أكثر تكلفاً وتمحلاً . وقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا بأنه إن كان المخاطب بـ { كُنْ } موجوداً ، فتحصيل الحاصل محال ، وإن كان معدوماً ، فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ فأجاب بقوله : هذه المسألة مبنية على أصلين : أحدهما : الفرق بين خطاب التكوين الذي لا يطلب به سبحانه فعلاً من المخاطب ، بل هو الذي يكوّن المخاطب به ، ويخلقه بدون فعل من المخاطب ، أو قدرة أو إرادة أو وجود له . وبين خطاب التكليف الذي يطلب به من المأمور فعلاً أو تركاً يفعله بقدرة وإرادة . وإن كان ذلك جميعه بحول الله وقوته . إذ لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ وهذا الخطاب قد تنازع فيه الناس . هل يصح أن يخاطب به المعدوم بشرط وجوده أم لا يصح أن يخاطب به إلا بعد وجوده ؟ لا نزاع بينهم أنه لا يتعلق به حكم الخطاب إلا بعد وجوده . وكذلك تنازعوا في الأول هل هو خطاب حقيقي ؟ أم هو عبارة عن الاقتدار وسرعة التكوين بالقدرة ؟ . والأول هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة . والأصل الثاني : أن المعدوم في حال عدمه ، هل هو شيء أم لا ؟ فإنه قد ذهب طوائف من متكلمة المعتزلة والشيعة إلى أنه شيء في الخارج وذات وعين ، وزعموا أن الماهيات غير مجعولة ولا مخلوقة ، وأن وجودها زائد على حقيقتها . وكذلك ذهب إلى هذا طوائف من المتفلسفة والاتحادية وغيرهم من الملاحدة . والذي عليه جماهير الناس ، وهو قول متكلمة أهل الإثبات والمنتسبين إلى السنة والجماعة ؛ إنه في الخارج عن الذهن قبل وجوده ليس بشيء أصلاً ولا ذات ولا عين . وإنه ليس في الخارج شيئان أحدهما حقيقة ، والآخر وجوده الزائد على حقيقته . فإن الله أبدع الذوات التي هي الماهيات . فكل ما سواه سبحانه مخلوق ومجعول ومبدَع ومبدوء له سبحانه وتعالى . ولكن في هؤلاء من يقول : المعدوم ليس بشيء أصلاً ، وإن سمي شيئاً باعتبار ثبوته في العلم ، كان مجازاً . ومنهم من يقول : لا ريب أن له ثبوتاً في العلم ووجوداً فيه ، فهو باعتبار هذا الثبوت والوجود هو شيء وذات . وهؤلاء لا يفرقون بين الوجود والثبوت . كما فرق من قال : المعدوم شيء . ولا يفرقون في كون المعدوم ليس بشيء بين الممكن والممتنع ، كما فرق أولئك . إذ قد اتفقوا على أن الممتنع ليس بشيء وإنما النزاع في الممكن . وعمدة من جعله شيئاً ، إنما هو لأنه ثابت في العلم ، وباعتبار ذلك صح أن يخص بالقصد والخلق والخبر عنه والأمر به والنهي عنه ، وغير ذلك . قالوا : وهذه التخصيصات تمتنع أن تتعلق بالعدم المحض ، فإن خُصَّ الفرق بين الوجود الذي هو الثبوت العيني ، وبين الوجود الذي هو الثبوت العلمي ، زالت الشبهة في هذا الباب . وقوله تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ذلك الشيء هو معلوم قبل إبداعه وقيل توجيه هذا الخطاب إليه . وبذلك كان مقدراً مقضياً ، فإن الله سبحانه وتعالى يقول ويكتب مما يعلمه ما شاء . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال : وعرشه على الماء " ، وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض " وفي سنن أبي داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب قال : رب ، وماذا أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " إلى أمثال ذلك من النصوص التي تبين أن المخلوق قبل أن يخلق كان معلوماً مخبراً عنه ، مكتوباً . فهو شيء باعتبار وجوده العلمي الكلامي الكتابي ، وإن كانت حقيقته التي هي وجوده العيني ليس ثابتاً في الخارج ، بل هو عدم محض ونفيٌ في صِرف ، وهذه المراتب الأربعة المشهورة موجودات وقد ذكرها الله سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه في قوله : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ * ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ * عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 1 - 5 ] وقد بسطنا الكلام في ذلك في غير هذا الموضع ، وإذا كان كذلك كان الخطاب موجهاً إلى من توجهت إليه الإرادة ، وتعلقت به القدرة ، وخلق وكون كما قال : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] فالذي يقال له : { كُنْ } هو الذي يراد ، وهو ، حين يراد قبل أن يخلق ، له ثبوت وتميز في العلم والتقدير . ولولا ذلك لما تميز المراد المخلوق من غيره ، وبهذا يحصل الجواب عن التقسيم . فإن فوق السائل : إن كان المخاطب موجوداً ، فتحصيل الحاصل محال . يقال له هذا إذا كان موجوداً في الخارج وجوده الذي هو وجوده . ولا ريب أن المعدوم ليس موجوداً ، ولا هو في نفسه ثابت . وأما ما علم وأريد وكان شيئاً في العلم والإرادة والتقدير فليس وجوده في الخارج محالاً ، بل جميع المخلوقات لا توجد إلا بعد وجودها في العلم والإرادة . وقول السائل : إن كان معدوماً فكيف يتصور خطاب المعدوم ؟ يقال له : أما إذا قصد أن يخاطب المعدوم بخطاب يفهمه ويمتثله فهذا محال ، إذ من شرط المخاطَب أن يتمكن من الفهم والفعل . والمعدوم لا يتصور أن يفهم ويفعل ، فيمتنع خطاب التكليف له حال عدمه بمعنى أنه مطلوب منه حين عدمه أن يفهم ويفعل ، ولذلك أيضاً يمتنع أن يخاطب المعدوم في الخارج خطاب تكوين ، بمعنى أن يعتقد أنه شيء ثابت في الخارج وأنه يخاطب بأن يكون . وأما الشيء المعلوم المذكور المكتوب إذا كان توجيه خطاب التكوين إليه مثل توجيه الإرادة إليه ، فليس ذلك محالاً . بل هو أمر ممكن ، بل مثل ذلك يجده الإنسان في نفسه ؛ فيقدر أمراً في نفسه يريد أن يفعله ويوجه إرادته وطلبه إلى ذلك المراد المطلوب ، الذي قدره في نفسه ، ويكون حصول المراد المطلوب بحسب قدرته ، فإن كان قادراً على حصوله حصل مع الإرادة والطلب الجازم . وإن كان عاجزاً ، لم يحصل . وقد يقول الإنسان : ليكن كذا ونحو ذلك من صيغ الطلب . فيكون المطلوب بحسب قدرته عليه . والله سبحانه على كل شيء قدير . وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن : فيكون . انتهى .