Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 125-125)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ } أي : الذي بناه إبراهيم بأم القرى . وهو اسم غالب للكعبة ، كالنجم للثريا { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } مباءة مرجعاً للحجاج والعمّار ، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه ، ومثابة مفعلة ، من " الثوب " وهو الرجوع ترامياً إليه بالكلية ، وسر هذا التفضل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهَوَى القلوب وانعطافها ومحبتها له ، فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد ، فهو الأولى بقول القائل : @ محاسنه هيولي كل حسن ومعناطيس أفئدة الرجال @@ فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطراً . بل كلما ازدادوا له زيارة ، ازدادوا له اشتياقاً . @ لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً @@ فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح ! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ! ورضى المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان ، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطب والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ! ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد . { وَأَمْناً } موضع أمن . كقوله : { حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وكقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يسبون . وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له ، وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطراً ، ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله : { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِىۤ إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] إلى أن قال : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } [ إبراهيم : 40 ] ومن كونه مأمنا لمن دخله . كما بيّنا . وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قلبي ، ولم يحل لي إلا ساعةً من نهار " الحديث . وقوله تعالى : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قرئ بكسر الخاء ، أمراً معترضاً بين الجملتين الخبرتين أو بتقدير : وقلنا اتخذوا . وقرئ بفتح الخاء ماضياً معطوفاً على { جَعَلْنَا } ، أي : واتخذوه مصلى ومقام إبراهيم هو الحرم كله ، عن مجاهد وعنه : هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة . ويقال : هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام . فقد قال قتادة : إنما أمروا أن يصلُوا عنده ولم يؤمروا بمسحه ، ولقد تكلفت الأمم شيئاً مما تكلفته الأمم قبلها . قال الراغب الأصفهاني : والأولى أنه الحرم كله ، فما من موضع ذكروه إلا هو مصلي أو مدعى أو موضع صلاة . أقول : كان الأصل في الآية : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ومصليً . إلا أنه عَدَلَ إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك ، ودون أن يقال مثلاً : واتخذوا منه مصلى - لوجوه : أحدها : التنويه بأمر الصلاة فيه والتعظيم لشأنها حيث أفرد ، للعناية بها ، جملة على حدة . وثانيها : التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة . وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم . وثالثها : التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر ربانيّ لا بتشريع بشر ، تمهيداً للأمر باستقباله ، وإلزاماً لمن جادل فيه ، وهم اليهود . وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } . قال ابن كثير : ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة . وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه عند بناء البيت ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيد لرفع الجدار . وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى ، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه ، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها ، وهكذا حتى تم جدران الكعبة ، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري . قال ابن كثير : وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً . ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل عليه السلام ، لما فرغ من بناء البيت ، وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء ، فتركه هناك ، ولهذا ، والله أعلم ، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف . وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه . كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم . فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعاً ، وجعل المقام بينه وبين البيت ، فصلى ركعتين . قال ابن كثير : وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه . ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة . وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت . ثم آخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقال سفيان بن عيينة ، وهو إمام المكيين في زمانه : كان المقام من سُقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . قال : ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه . وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله . وقال أيضاً : لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا . وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقاً بها . والله أعلم . وقال الحافظ الشيخ عُمَر بن الحافظ التقي محمد بن فهد المكي الهاشمي ، في كتاب " إتحاف الورى بأخبار أم القرى " في حوادث سنة سبع عشرة : فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم . فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه ، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة . وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل ، فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها . وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية . فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة ، وكان سيلاً هائلاً . فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة . فهاله ذلك . وركب فَزِعاً إلى مكة . فدخلها بعمرة في شهر رمضان . فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف . ثم قال : أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام ، فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه : أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك ، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر ، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر ، ومن موضعه إلى زمزم بِمِقاط ، وهي عندي في البيت . فقال له عمر : اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها ، فجلس عنده وأرسل إليها فأتى بها ، فقيس ، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن . وأحكم ذلك واستمر إلى الآن . انتهى . { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } أي : أمرناهما . وتعديته " إلى " لأنه في معنى : تقدمنا وأوحينا { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي : عن كل رجس حسي ومعنوي : فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع . أو ابنياه على طهر من الشرك بي . كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [ الحج : 26 ] أو أخلصاه للطائفين وما بعده ، لئلا يغشاه غيرهم ، فاللام صلة { طَهِّرَا } على هذا ، وعلى ما قبله ، لام العلة . أي : طهراه لأجلهم . وقوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } أي : حوله . وعن سعيد بن جبير : يعني من أتاه من غربة { وَٱلْعَاكِفِينَ } يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين . كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير : ما أُراني إلا مكلِّم الأمير : أن أمْنَعِ الذين ينامون في المسجد الحرام . فإنهم يُجنبون ويُحدثون . قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون . ورواه عبد بن حميد في مسنده . وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عَزَبٌ . وفي الكشاف : يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين . يعني القائمين في الصلاة . كما قال للطائفين والقائمين : { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين ؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلى ، ولتقارب الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما . وجمع صفتين جمع سلامة ، وآخريين جمع تكسير لأجل المقابلة . وهو نوع من الفصاحة . وأخَّرَ صيغة " فُعُول " على " فُعَّل " لأنها فاضلة . والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له . ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ففي ذلك تبكيت لهم على توبيخهم بترك دينه .