Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 177-177)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } البرّ : اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقرّبة إلى الله تعالى ، ومن هذا : برّ الوالدين ، قال تعالى : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] فجعل البرّ ضدّ الفجور . وقال : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [ المائدة : 2 ] . فجعل البرّ ضدّ الإثم ، فدلّ على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان . أي : ليس الصلاح والطاعة والفعل المرضيّ في تزكية النفس - الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ - هو أمر القبلة ، ولكن البِرّ - الذي يجب الاهتمام به - هو هذه الخصال التي عدّها جلّ شأنه . ولا يبعد أن يكون بعض المؤمنين - عند نسخ القبلة وتحويلها - حصل منهم الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشدّد في شأنها ، حتى ظنوا أنّه الغرض الأكبر في الدين ، فبعثهم تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات . أشار لهذا الرازيّ . وقال الراغب : الخطاب في هذه الآية للكفّار والمنافقين الذين أنكروا تغيير القبلة . وقيل : بل لهم وللمؤمنين حيث قد يرون أنهم نالوا البرّ كلّه بالتوجّه إليها . { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } أي : إيمان من آمن بالله - الذي دعت إليه آية الوحدانية - فأثبت له صفات الكمال ، ونزهه عن سمات النقصان . { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الذي كذب به المشركون ، فاختلّ نظامهم ببغي ببعضهم على بعض : { وَٱلْمَلاۤئِكَةِ } أي : وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين رسله بإلقاء الوحي وإنزال الكتب : { وَٱلْكِتَابِ } أي : بحبس الكتاب . فيشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، التي من أفرادها : أشرفها وهو القرآن - المهيمن على ما قبله من الكتب - الذي انتهى إليه كلّ خيرٍ واشتمل على كلّ سعادة في الدنيا والآخرة . { وَٱلنَّبِيِّينَ } جميعاً من غير تفرقةٍ بين أحدٍ منهم ، كما فعل أهل الكتابين . قال الحراليّ : ففيه - أي : الإيمان بهم وبما قبلهم - قهرُ النفس للإذعان لمن هو من جنسها ، والإيمانُ بغيب من ليس من جنسها ، ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها . { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } أي : أخرجه وهو محبٌّ له راغبٌ فيه ، نصّ على ذلك : ابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وغيرهما من السلف والخلف ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً : " أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر " . وقوله : { ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } هم : قرابات الرجل ، وهم أوْلى من أعطى من الصدقة . وقد روى الإمام أحمد ، والترمذيّ ، والنسائيّ وغيرهم عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان : صَدَقَةٌ وَصِِلَةٌ " وفي الصحيحين من حديث زينب ، امرأة عبد الله بن مسعود ، أنها وامرأة أخرى سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما … ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لهما أجران : أجْرُ القرابة وأجر الصدقة " . وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى القرابة في غير موضع من كتابه العزيز . { وَٱلْيَتَامَىٰ } وهم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ . { وَٱلْمَسَاكِينَ } وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم . فيُعْطَوْنَ ما يسدّ به حاجتهم وخلتهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنيً يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه " . { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته . فيُعطى ما يوصله إلى بلده لعجزه بالغربة . وكذا الذي يريد سفراً في طاعة . فيُعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه . ويدخل في ذلك الضيف ، كما قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو جعفر الباقر ، والحسن وقتادة ، والضحّاك ، والزهريّ ، والربيع بن أنس ، ومقابل بن حيّان . والسبيل اسم الطريق ، وجعل المسافر ابناً لها لملازمته إياها - كما يقال لطير الماء : ابن الماء ، ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون : ابن الأيام ، وللشجعان : بنو الحرب ، وللناس : بنو الزمان . { وَٱلسَّآئِلِينَ } : وهم الذين يتعرضون للطلب ، فيعطون من الزكوات والصدقات . كما روى الإمام أحمد عن حسين بن عليّ عليهما السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حقٌّ وإنْ جاء على فرس " ورواه أبو داود . { وَفِي ٱلرِّقَابِ } معطوف على المفعول الأول - وهو ذوي - أي : وآتى المال في الرقاب ، أي : دفعه في فكَّها ، أي : لأجله وبسببه . قال الراغب : الرقاب جمع رقبة . وأصل الرقبة : العنق . ويعبرّ بها عن الجملة ، كما يعبرّ عنها بالرأس . وقال الحراليّ : الرقاب جمع رقبة وهو ما ناله الرقّ من بني آدم . فالمراد : الرقاب المسترقّة التي يرام فكّها بالكتابة - وفكّ الأسرى منه - وقدّم عليهم أولئك لأنّ حاجتهم لإقامة البنية . قيل : نكتة إيراد في هُوَ أنَّ ما يعطى لهم : مصروف في تخليص رقابهم ، فلا يملكونه كالمصارف الأخر . والله أعلم . لطيفة قال الراغب : إن قيل : كيف اعتبر الترتيب المذكور في قوله تعالى : { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ … } الآية ؟ قيل : لما كان أولى من يتفقدّه الإنسان بمعروفه أقاربه ، كان تقديمها أولى ، ثمّ عقبه باليتامى لأن مواساتهم بعد الأقارب أولى ، ثمّ ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً . ثمّ ذكر ابن السبيل الذي قد يكون له مال غائب . ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب . ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم . فكلّ واحد ممن أُخّر ذكره أقل فقراً ممن قدّم ذكره … ! { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ } أي : أتمّ أفعالها في أوقاتها - بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها - على الوجه الشرعي المرضيّ . { وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } أي : زكاة المال المفروضة ؛ على أن المراد بما مرّ من إيتاء المال ، التنفّل بالصدقات والبرّ والصلة . قدّم على الفريضة مبالغةً في الحث عليه ، أو المراد بهما المفروضة ، والأول لبيان المصارف ، والثاني لبيان وجوب الأداء . وقد أبعد من حمل الزكاة - هنا - على زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] ، وقوله : { هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } [ النازعات : 18 ] ، ووجه البعد : أن الزكاة المقرونة بالصلاة في التنزيل لا يُراد بها إلا زكاة المال ، وأما مع الانفراد فعلى حسب المقام { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } عطف على { مَنْ آمَنَ } ، فإنه في قوة أن يقال : ومن أوفوا بعهدهم . وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء . قال الرازيّ : اعلم أن هذا العهد إمّا أن يكون بين العبد وبين الله ، أو بينه وبين رسول الله ، أو بينه وبين سائر الناس . فالأول : ما يلزمه بالنذور والأيمان . والثاني : فهو ما عاهد الرسول عليه عند البيعة : من القيام بالنصرة ، والمظاهرة ، والمجاهدة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه . والثالث : قد يكون من الواجبات : مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم . وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن . وقد يكون من المندوبات : مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة . فالآية تتناول كلّ هذه الأقسام . قال ابن كثير : وعكس هذه الصفة النفاق . كما صحّ في الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " وفي رواية : " إذا حدّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " . { وَٱلصَّابِرِينَ } نصب على الاختصاص . غيرَّ سبكه عما قبله تنبيهاً على فضيلة الصبر ومزّيته . وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله . قال أبو عليّ : إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعراب ، فقد خولف للافتنانِ . ويسمى ذلك قطعاً ؛ لأن تغيير المألوف يدلّ على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكور ، ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه ! وقد قرئ : " والصابرون " كما قرئ " والموفين " . قال الراغب : لما كان الصبر : من وجهٍ مبدأ للفضائل ، ومن وجهٍ جامعاً للفضائل ، إذ لا فضيلةَ إلا وللصبر فيها أثر بليغ ، غيّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد … ! { فِي ٱلْبَأْسَآءِ } أي : الشدة ، أي : عند حلولها بهم { وٱلضَّرَّآءِ } بمعنى البأساء وهي الشدة أيضاً ، كما فسرهما بها في القاموس ، وقال ابن الأثير : الضرّاء : الحالة التي تضرّ وهي نقيض السرّاء ، وهما بناءان للمؤنث ولا مذكّر لهما : { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } أي : وقت مجاهدة العدوّ في مواطن الحرب ، وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحياناً ، وسرعة انقاضائه . ومعنى البأس في اللغة : الشدّة ، يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي : لا شدة . وعذاب بئيس : شديد . وسميت الحرب بأساً لما فيها من الشدّة . والعذابُ يسمى بأساً لشدته . قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ] . { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] . { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ } [ غافر : 29 ] . وقال ابن سيده : البأس الحرب ، ثمّ كثر حتى قيل : لا بأس عليك ، أي : لا خوف . وقال الراغب : استوعبت هذه الجملة أنواع الضرّ . لأنّه إمّا يحتاج إلى الصبر في شيء يعوز الإنسان ، أو يريده فلا يناله ، وهو البأساء . أو فيما نال جسمه من ألم ، وهو الضرّاء . أو في مدافعة مؤذِيه . وهو البأس . { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } في إيمانهم ؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبيّ بالأقوال والأفعال ، فلم تغيرهم الأحوال ، ولم تزلزلهم الأهوال ، وفيه إشعار بأنّ من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعواه الإيمان … ! { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } عن الكفر وسائر الرذائل . وتكرير الإشارة لزيادة تنويهٍ بشأنهم . وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم . قال الواحديّ : هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع . فمِنْ شرائط البرّ ، وتمام شرط البارّ ، أن تجتمع فيه هذه الأوصاف . ومن قام به واحدٌ منها لم يستحق الوصف بالبر .