Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 179-179)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } كلام في غاية الفصاحة والبلاغة لما فيه من الغرابة ، حيث جعل الشيء محل ضدّه ، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة . وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، وعرّف القصاص ونكر الحياة ، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم - الذي هو القصاص - حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة . وكم قتل مهلهل بأخيه حتى كاد يفني بكر بن وائل ! وكان يقتل بالمقتول غير قاتله ، فتثور الفتنة ، ويقع بينهم التناحر … ! فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي حياة … ! أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنه إذا همّ بالقتل ، فعَلم أنه يقتص منه فارتدع ، سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود . فكان القصاص سبب حياة نفسين … ! هذا ما يستفاد من الكشاف . لطيفة اتفق علماء البيان على أنّ هذه الآية - في الإيجاز مع جمع المعاني - بالغة إلى أعلى الدرجات … ! وذلك لأن العرب عبّروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة ، كقولهم : قَتْل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقلّ القتل ، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل ؛ وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها … ! ومن المعلوم لكلّ ذي لُبًّ أنّ بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه ! وأنّى لها الوصول إلى رشاقة القرآن وعذوبته … ! قال في الإتقان : وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهو قولهم : القتل أنفى للقتل بعشرين وجهاً أو أكثر . وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال : لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق … ! وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك … ! الأول : أنّ ما يناظره من كلامهم وهو { ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } أقلّ حروفاً ، فإنّ حروفه عشرة وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر … ! الثاني : أنّ نفي القتل لا يستلزم الحياة ، والحياة ناصّة على ثبوتها التي هي الغرض المطلوب منه . الثالث : أنّ تنكير { حَيَٰوةٌ } يفيد تعظيماً ، فيدلّ على أن في القصاص حياة متطاولة ، كقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] . ولا كذلك المثل ، فإنّ اللام فيه للجنس ، ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء ! الرابع : أنّ الآية فيه مطّردة ، بخلاف المثل ، فإنه ليس كلّ قتلٍ أنفى للقتل ، بل قد يكون أدعى له ، وهو القتل ظلماً … ! وإنما ينفيه قتل خاصّ ، وهو القصاص ، ففيه حياة أبداً … ! الخامس : أنّ الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل . والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلاً بالفصاحة … ! السادس : أنّ الآية مستغنية عن تقدير محذوف ، بخلاف قولهم . فإنّ فيه حذف من التي بعد أفْعَل التفضيل وما بعدها ، وحذف قصاصاً مع القتل الأول ، وظلماً مع القتل الثاني ، والتقدير : القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً من تركه . السابع : أن في الآية طباقاً ، لأنّ القصاص يشعر بضدّ الحياة بخلاف المثل … ! الثامن : أن الآية اشتملت على فنٍّ بديع ، وهو جعل أحد الضدّين - الذي هو الفناء والموت - محلاً ومكاناً لضدّه - الذي هو الحياة . واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة … ! ذكره في الكشاف ، وعبّر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال { فِي } عليه . التاسع : إنّ في المثل تواليَ أسباب كثيرة خفيفة - وهو السكون بعد الحركة - وذلك مستكره ، فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكّن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته ! بخلاف ما إذا تَعَقَّب كلَّ حركة سكونٌ ، فالحركات تنقطع بالسكنات . نظيره : إذا تحركت الدابة أدنى حركة ، فحبست ، ثمّ تحرّكت فحبست ، لا تطيق إطلاقها ، ولا تتمكّن من حركتها على ما تختاره ، فهي كالمقيدة ! العاشر : أنّ المثل كالتناقض من حيث الظاهر ، لأن الشيء لا ينفي نفسه ! الحادي عشر : سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدّة ، وبُعدها عن غنة النون . الثاني عشر : اشتمالها على حروف متلائمة ، لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد - إذ القاف من حروف الاستعلاء ، والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق ، بخلاف الخروج من القاف إلى التاء - التي هي من حرف منخفض - فهو غير ملائم للقاف ، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة ، لبُعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق . الثالث عشر : في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ، ولا كذلك تكرير القاف والتاء . الرابع عشر : سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة ، بخلاف لفظ الحياة فإنّ الطباع أقبل له من لفظ القتل . الخامس عشر : أنّ لفظ القصاص مشعر بالمساواة ، فهن منبئٌ عن العدل ، بخلاف مطلق القتل . السادس عشر : الآية مبنية على الإثبات ، والمثل على النفي ، والإثبات أشرف لأنه أول ، والنفي ثانٍ عنه . السابع عشر : أنّ المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أنّ القصاص هو الحياة . وقوله : { فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ } مفهوم من أول وهلة … ! . الثامن عشر : أنّ في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعدٍ ، والآية سالمة منه … ! التاسع عشر : أنّ أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك ، فيكون ترك القصاص نافياً للقتل ، ولكنّ القصاص أكثر نفياً … وليس الأمر كذلك ، والآية سالمة من ذلك . العشرون : أن الآية رادعة عن القتل والجروح معاً لشمول القصاص لهما ، والحياةُ أيضاً في قصاص الأعضاء . لأنّ قطع العضو ينقص أو ينغص مصلحة الحياة ، وقد يسري النفس فيزيلها ، ولا كذلك المثل … ! في أول الآية { وَلَكُمْ } وفيها لطيفة : وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص ، وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم ، لتخصيصهم بالمعنى مع وجوده فيمن سواهم . … ! انتهى . وقوله تعالى : { يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } المراد به : العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف . فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعدائهم ، وعلموا أنهم يطالبون بالقود ، صار ذلك رادعاً لهم ، لأنّ العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه . فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكفّ والامتناع … ! إلا أنّ هذا الخوف إنما يتولّد من الفكر الذي ذكرناه ممّن له عقل يهديه إلى هذا الفكر ، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر ، لا يحصل له هذا الخوف … ! فلهذا السبب خصّ الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب ، ثمّ علل ذلك بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : الله تعالى بالانقياد لما شرع ، فتتحامون القتل .