Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 21-21)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } لما ذكر الله علوَّ طبقة كتابه الكريم ، وتحزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ : مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام ، وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق ، وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ؛ وما اختصت به كُلُّ فرقة مما يسعدها ويشقيها ، ويحظيها عند الله ويرديها ؛ أقبل عليهم بالخطاب - وهو من الالتفات المذكور عند قوله جل ذكره : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] - وهو فن من الكلام جَزْلٌ ، فيه هزٌّ وتحريك من السامع - كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكياً عن ثالث لكما : إن فلاناً من قصته كيت وكيت ، فقصصتَ عليه ما فرط منه ، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث ، فقلت : يا فلان ! من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجاري أمورك ، وتستوي على جادة السداد في مصادرك ومواردك - نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبه ، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء ؛ وأوجدته ، بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ، ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة ، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف ، يستفتح الآذان للاستماع ، ويستهش الأنفس للقبول . وإنما كثر النداء في كتابه تعالى على طريقة { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد ، وأسبابٍ من المبالغة . كالإيضاح بعد الإبهام ، واختيار لفظ البعيد وتأكيد معناه بحرف التنبيه . ومعلوم أنّ كل ما نادى الله به عباده : من أوامره ، ونواهيه ، وعظاته ، وزواجره ، ووعده ، ووعيده ، واقتصاص أخبار الأمم الدارجة عليهم ، وغير ذلك … مما أنطق به كتابه - أمور عظام - وخطوب جسام ، ومعانٍ علَّمهم أن يتيقظوا لها ، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم عنها غافلون ، فاقتضت الحال أن يُنادوا بالآكد الأبلغ - أفاده الزمخشري . والمراد بالناس : كافّة المكلفين - مؤمنهم وكافرهم - فطلبُ العبادة من المؤمنين طلبُ الزيادة فيها ، والثبات عليها ، ومن الكافرين ابتداؤها . { ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } أنعم عليكم بإخراجكم من العدم إلى الوجود { وَ } - خلق - { ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : كي تتقون ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقوله سبحانه : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } [ الملك : 2 ] . وفي إيراد { لَعَلَّ } ، تشبيه طلبه تعالى برجاء الراجي من المرجوّ منه أمراً هيّن الحصول ، فإنَّه تعالى لما وضع في أيدي المكلفين زمام الاختيار ، وطلب منهم الطاعة ، ونصب لهم أدلَّةً عقليةً ونقليّةً داعية إليها ؛ ووعد ، وأوعد ، وألطف بما لا يحصى كثرة - لم يبق للمكلف عذر ، وصار حاله في رجحان اختياره للطاعة مع تمكنه من المعصية كحال المترجى منه في رجحان اختياره لما يرتجى منه - مع تمكنُّه من خلافه - وصار طلب الله تعالى لعبادته واتقائه بمنزلة الترجّي - فيما ذكرناه .