Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 223-223)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } روى الشيخان عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثمّ حملت كان ولدها أحول . قال : فأنزلت : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } . وعند مسلم عن الزهريّ : إن شاء مجبيِّة ، وإن شاء غير مجبية ، غير أنّ ذلك في صمام واحد . قال الحافظ ابن حجر في الفتح : هذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهريّ ، لخلوِّها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر ، مع كثرتهم . والمجبِّية كملبِّية : المنكبة على وجهها . والصمام الواحد : الفرج . وقوله تعالى : { حَرْثٌ لَّكُمْ } الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، هذا أصله ؛ والكلام إما بحذف المضافِ ، أي : مواضع حرث ، أو المصدر بمعنى المفعول أي : محروثات . وإنما شُبِّهْنَ بذلك لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة ، من حيث إنّ كلا منهما مادة لما يحصل منه . ولمّا عبّر تعالى عنهنّ بالحرث عبّر عن مجامعتهن بالإتيان كما تقدّم ، فقال : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } أي : فَأتُوهُنّ كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أيّ جهةٍ شئتم ، لا تخطر عليكم جهة دون جهة . والمعنى : جامعوهن من أيّ جهةٍ شئتم ولا تبالوا بقول اليهود . وفي تخصيص الحرث بالذكر تعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه . قال الزمخشري : وقوله تعالى : { هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ } [ النساء : 222 ] - { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } [ النساء : 222 ] . { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } . من الكنايات اللطيفة ، والتعريضات المستحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدبّوا بها ، ويتكلّفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم . وقد ورد - في سبب نزول هذه الآية - رواية أخرى أخرجها أبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : كان هذا الحيّ من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم . وكان من أمر أهل الكتاب أنّهم لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة . فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم . وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً ويتلذذون منهنّ مُقبِلات ومُدْبرات ومستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار . فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف . فاصنع ذلك ، وإلا فاجتنبني ، حتى سرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عز وجل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } أي : مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد . تنبيه ما ذكرناه فمن الروايات هو المعوّل عليه عند المحققين . وثمة روايات أخَرُ تدلّ على أنّ هذه الآية إنّما أُنزلت رخصة في إتيان النساء في أدبارهنّ . قال الطحاويّ : روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ما أدركت أحداً أقتدى به في ديني يشك أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ثم قال : فأيّ شيء أبين من هذا ؟ هذه حكاية الطحاويّ نقلها ابن كثير . وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعيّ : قال ابن القاسم : ولم أدرك أحداً أقتدي به في ديني يشك فيه . والمدنيوّن يروون فيه الرخصة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . يشير بذلك إلى ما روى عن ابن عمر وأبي سعيد . أما حديث ابن عمر فله طرق . رواه عنه نافع ، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وزيد بن أسلم . وسعيد بن يسار . وغيرهم . أمّا نافع فاشتهر عنه من طرقٍ كثيرة جدّاً . منها رواية مالك ، وأيوب ، وعبيد الله بن عمر العمريّ ، وابن أبي ذئب ، وعبد الله بن عون ، وهشام بن سعد ، وعمر بن محمد بن زيد ، وعبد الله بن نافع ، وأبان بن صالح ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة . قال الدارقطني ، في أحاديث مالك التي رواها خارج المُوَطأ : نا أبو جعفر الأسوانيّ المالكيّ بمصر . ثنا محمد بن أحمد بن حماد . نا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهريّ . نا أبو ثابت محمد بن عبيد الله . حدثنا الدراورديّ عن عبيد الله بن عمر بن حفص عن نافع قال : قال لي ابن عمر : أمسك عليّ المصحف يا نافع . فقرأ حتى أتى على هذه الآية { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ … } ، فقال : تدري يا نافع فيمن أنزلت هذه الآية ؟ قال : قلت : لا ؟ قال : فقال لي : في رجلٍ من الأنصار أصاب امرأته في دبرها ، فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } الآية . قال نافع : فقلت لابن عمر : من دبرها في قبلها ؟ قال : لا . إلا في دبرها . قال أبو ثابت : وحدثني به الدراورديّ عن مالك وابن أبي ذئب . وفيهما عن نافع مثله . وفي تفسير البقرة من صحيح البخاريّ : نا إسحاق . أنا النضر . أنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه . فأخذت عليه يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكانٍ . فقال : تدري فيم أنزلت ؟ فقلت : لا ! قال : نزلت في كذا وكذا . ثم مضى . وعن عبد الصمد : حدثني أبي - يعني عبد الوارث - حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر في قوله تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } قال : يأتيها في … قال : ورواه محمد بن يحيى ابن سعيد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر . هكذا وقع عنده . والرواية الأولى - في تفسير إسحاق بن راهويه - مثل ما ساق ، لكن عيّن الآية وهي { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } وعيّن قوله كذا وكذا . فقال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن . وكذا رواه الطبريّ من طريق ابن علية عن ابن عون . وأما رواية عبد الصمد فهي في تفسير إسحاق أيضاً عنه ، وقال فيه : يأتيها في الدبر . وأما رواية محمد : فأخرجها الطبرانيّ في الأوسط عن عليّ بن سعيد ، عن أبي بكر الأعين ، عن محمد بن يحيى بن سعيد بلفظ : إنما أنزلت { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } رخصة في إتيان الدبر . وأخرجه الحاكم في تاريخه من طريق عيسى بن مثرود عن عبد الرحمن بن القاسم . ومن طريق سهل بن عمار عن عبد الله بن نافع . ورواه الدارقطنيّ في غرائب مالك من طريق زكريا الساجي عن محمد بن الحارث المدنيّ عن أبي مصعب . ورواه الخطيب في الرواة عن مالك من طريق أحمد بن الحكم العبديّ . ورواه أبو إسحاق الثعلبيّ في تفسيره والدارقطنيّ - أيضاً - من طريق إسحاق بن محمد الفرويّ . ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق محمد بن صدقة الفدكيّ ، كلّهم عن مالك . قال الدارقطنيّ : هذا ثابت عن مالك . وأمّا زيد بن أسلم : فروى النسائي والطبريّ من طريق أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عنه ، عن ابن عمر : أنّ رجلاً أتى امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد من ذلك وجداً شديداً ، فانزل الله عزّ وجل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ … } الآية . وأمّا عبيد الله بن عبد الله بن عمر : فروى النسائي من طريق يزيد بن رومان عنه : أنّ ابن عمر كان لا يرى به بأساً . موقوف . وأمّا سعيد بن يسار : فروى النسائيّ والطحاويّ والطبريّ من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إنّ عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال : قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري فنحمض لهن - والتحميض : الإتيان في الدبر - فقال : أفٍّ ! أَوَ يَفعل هذا مسلم ؟ قال ابن القاسم : فقال لي مالك : أشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنّه سأل ابن عمر عنه فقال : لا بأس به . وأمّا حديث أبي سعيد : فروى أبو يعلى وابن مردويه في تفسيره والطبريّ والطحاويّ من طرق : عن عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ : أنّ رجلاً أصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : أثفرها ! فأنزل الله عز وجل : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } . ورواه أسامة بن أحمد التجيبيّ من طريق يحيى بن أيوب عن هشام بن سعد ، ولفظه : كنّا نأتي النساء في أدبارهن ويسمّى ذلك الإثفار ، فأنزل الله الآية . ورواه من طريق معن بن عيسى عن هشام - ولم يسمّ أبا سعيد - قال : كان رجال من الأنصار . هذا ، وقد روي في تحريم ذلك آثار كثيرة نقلها الحافظ ابن كثير في تفسيره ، وابن حجر في تخريج أحاديث الرافعيّ . وكلها معلولة . ولذا قال البزار : لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً ، لا في الحظر ولا في الإطلاق . وكلّ ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه ، فغير صحيح . وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي عليّ النيسابوريّ ، ومثله عن النسائي ، وقاله قبلهما البخاريّ . وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعيّ أنّه قال : لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء . والقياس أنّه حلال . وروى أحمد بن أسامة التجيبيّ من طريق معن بن عيسى قال : سألت مالكاً عنه ، فقال : ما أعلم فيه تحريماً . وقال ابن رشد في كتاب البيان والتحصيل في شرح العتبية روى العتبيّ عن ابن القاسم عن مالك أنّه قال له - وقد سأله عن ذلك مخلياً بِهِ - فقال : حلال ليس به بأس . وأخرج الحاكم عن محمد بن عبد الحكم قال : قال الشافعيّ كلاماً كلّم به محمد بن الحسن في مَسْألة إتيان المرأة في دبرها ، قال : سألني محمد بن الحسن فقلت له : إنْ كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات - وإن لم تصح - فأنت أعلم ، وإن تكلمت بالمناصفة كلْمتك . قال : على المناصفة . قلت : فبأيّ شيءٍ حرّمته ؟ قال : بقول الله عزّ وجل : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ } [ النساء : 222 ] وقال : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } ، والحرث لا يكون إلا في الفرج . قلت : أفيكون ذلك محرّما لما سواه ؟ قال : نعم . قلت : فما تقول لو وطئها بين ساقيها ، أو في أعكانها ، أو تحت إبطها ، أو أخذت ذكره بيدها ، أوَ في ذلك حرث … ؟ قال : لا ! قلت : أفيحرم ذلك ؟ قال : لا ! قلت : فلِمَ تحتج بما لا حجة فيه ؟ قال : فإن الله قال : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } [ المؤمنون : 5 ] الآية . قال : فقلت له : إنّ هذا مما يحتجون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه ، فقلت : أنت تتحفظ من زوجته وما ملكت يمينه . قال الحاكم : لعلّ الشافعيّ كان يقول بذلك في القديم . فأمّا في الجديد ، فالمشهور أنّه حرّمه . فقد روى الأصمّ عن الربيع : أنّ الشافعيّ نصّ على تحريمه في ستة كتب من كتبه … وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال : قال الشافعيّ : قال الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } احتملت الآية معنيين : أحدهما : أن تُؤَتي المرأة من حيث شاء زوجها ، لأنّ { أَنَّىٰ شِئْتُمْ } يأتي بمعنى أين شئتم . ثانيهما : أنّ الحرث إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه . فاختلف أصحابنا في ذلك . فأحسب كلا من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية . قال : فطلبنا الدلالة من السنة ، فوجدنا حديثين مختلفين : أحدهما ثابت ؛ وهو حديث خزيمة في التحريم . قال : فأخذنا به . وعليه ، فيكون الشافعيّ رجع عن القديم . وحديث خزيمة رواه الشافعيّ وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وأبو نعيم بالسند إلى خزيمة بن ثابت : " أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهنّ فقال : " حلال " . فلمّا ولّى الرجل دعاه - أو أمر به فدُعي - فقال : " كيف قلت ؟ في أيّ : الخرزتين ؟ أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم ! أمْ من دبرها في دبرها فلا ؟ إنّ الله لا يستحيى من الحق . لا تأتوا النساء في أدبارهن " . قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير : وفي إسناده عمرو بن أحيحة . وهو مجهول الحال . واختلف في إسناده اختلافاً كثيرا . ثم قال الحافظ : وقد قال الشافعيّ : غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة يعني حيث رواه . وتقدم قول البزار : وكل ما روى فيه عن خزيمة بن ثابت ، من طريق فيه ، فغير صحيح . وقال الرازيّ في تفسيره : ذهب أكثر العلماء إلى أنّ المراد من الآية : أنّ الرجل مخيَّر بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها . فقوله : { أَنَّىٰ شِئْتُمْ } محمول على ذلك . ونقل نافع عن ابن عمر أنّه كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن . وهذا قول مالك . واختيار السيد المرتضى من الشيعة . والمرتضى رواه عن جعفر ابن محمد الصادق رضي الله عنه . وبالجملة : فهذا المقام من معارك الرجال ، ومجاول الأبطال . وقد استُفيد مما أسلفناه : أنّ من جوّز ذلك وقف مع لفظ الآية . فإنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة . قال بعض المفسرين : إنّ العرب تسمّي النساء حرثاً قال الشاعر : @ إذا أكل الجراد حروث قومٍ فحرثي همّه أكل الجراد @@ يريد : امرأتي . وقال آخر : @ إنما الأرحام أرضٌ ولنا محترثات فقلبنا الزرع فيها وعلى الله النبات … ! @@ وحينئذٍ ففي قوله : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } إطلاق في إتيانهنّ على جميع الوجوه . فيدخل فيه محل النزاع . واعتمد أيضاً من سبب النزول ما رواه البخاريّ عن ابن عمر كما تقدّم . وقال في رواية جابر المرويّة في الصحيح المتقدّمة : إنّ ورود العام على سبب لا يقصره عليه . وأجاب عن توهيم ابن عباس لابن عمر ، رضي الله عنهم ، المرويّ في سنن أبي داود بأنّ سنده ليس على شرط البخاريّ فلا يعارضه . فيقدّم الأصحّ سنداً . ونظر إلى أنه لم يصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : ذهب جماعة من أئمة الحديث - كالبخاريّ والذهليّ والبزّار والنسائي وأبي علي النيسابوري - إلى أنه لا يثبت فيه شيء . وأمّا من منع ذلك : فتأوّل الآيات المتقدمة على صمام واحد . ونظر إلى أن الأحاديث المروّية - من طرق متعدّدة - بالزجر عن تعاطيه ، وإنّ لم تكن على شرط الشيخين في الصحة ، إلا أنّ مجموعها صالح للاحتجاج به . وقد استقصى الأحاديث الواردة في ذلك ، الحافظ الذهبيّ في جزءٍ جمعه في ذلك . وساق جملة منها الحافظ ابن كثير في تفسيره وكذا الإمام ابن القيّم في زاد المعاد وقد هوّل - عليه الرحمة - في شأنه تهويلاً عظيماً . فقال في كتابه المذكور ، في الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع ، ما نصّه : وأما الدبر ، فلم يَبح قط على لسان نبيّ من الأنبياء . ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة من دبرها فقد غلط عليه . ثمّ ساق أخبار النهي عنه - وقال بعدُ : وقد دلّت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين : أحدهما : أنه إنما أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد ، لا في الحشّ الذي هو موضع الأذى . وموضع الحرث هو المراد من قوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ } [ النساء : 222 ] الآية - { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ } وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضاً لأنه قال : { أَنَّىٰ شِئْتُمْ } أي : من أين شئتم : من أمام أو من خلف : قال ابن عباس : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } . يعني الفرج ؛ وإذا كان الله حرّم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظن بالحشّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان . وأيضاً ، فللمرأة حقّ على الرجل في الوطء ، ووطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضي وطرها ، ولا يحصل مقصودها . وأيضاً فإنّ الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ؛ فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً . وأيضاً فإنّ ذلك مضرّ بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء ، الأطباء من الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن . وراحة الرجل منه ، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كلّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعيّ … وأيضاً يضرّ من وجه آخر ، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جداً لمخالفته للطبيعة . وأيضاً فإنه محلّ القذر والنّجو فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه . وأيضاً فإنه يضرّ بالمرأة جدّاً ، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة . وأيضاً فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول . وأيضاً فإنه يسوّد الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسماء ، يعرفها من له أدنى فراسة . وأيضاً ، فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بدّ . وأيضاً : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكاد يرجى بعده صلاح . إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح . وأيضاً فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدّهما . كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلها بها تباغضا وتلاعناً . وأيضاً : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم ، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدَم نظره إليه فأيّ خير يرجوه بعد هذا ؟ وأي شرّ يأمنه ؟ وكيف حياة عبدٍ قد حلّت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه ؟ أقول : أخذ هذا ابن القيم من أحاديث وردت في لعن فاعل ذلك ، وعدم نظر الحقّ إليه . بيد أنها ضعيفة . ثم قال ابن القيم : وأيضاً فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن ، وحينئذ فقد استحكم فساده . وأيضاً فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئاً من الحيوان بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكِسَ الطبع انتكس القلب والعمل والهدى ، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره . وأيضاً فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه . وأيضاً : فإنه يورث من المهانة والسّفال والحقارة ما لا يورثه غيره . وأيضاً : فإنه يكسو العبد من حلّة المقت والبغضاء وازدراء الناس له ، واحتقارهم هم إياه ، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحسّ . فصلوات الله وسلامه على مَنْ سعادةُ الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به . وهلاكُ الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به . ا . هـ . ولما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة ، نبّه على ألا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة ، فقال تعالى : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة ، كقوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 197 ] وَاتقَّوا الله فلا تجتَرئوا على المعاصي { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } صائرون إليه فاستعدّوا للقائه { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بالثواب . وإنما حذف لكونه كالمعلوم ، فصار كقوله : { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] .