Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 124-127)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ * وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده ، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه ، من شقائه في الدنيا والآخرة . وهذا الشقاء بقسميه هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدي الله الذي بعث به خاتم أنبيائه ، ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه . وفي الآية . مسائل الأولى : قال الرازيّ في قوله تعالى : { عَن ذِكْرِي } : الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى . ويحتمل أن يراد به الأدلة . وقال ابن القيّم في ( مفتاح دار السعادة ) : أي : عن الذكر الذي أنزلته . و ( الذكر ) هنا مصدر مضاف إلى الفاعل . كـ ( قيامي وقراءتي ) لا إلى المفعول . وليس المعنى : ومن أعرض عن أن يذكرني . بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر . وأحسن من هذا الوجه أن يقال : الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء ، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها . والمعنى : ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه ، فإن القرآن يسمى ذكراً . قال تعالى : { وَهَـٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] وقال تعالى : { ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } [ آل عمران : 58 ] وقال تعالى : { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ القلم : 52 ] وقال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ } [ فصلت : 41 ] وقال تعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ يس : 11 ] ، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله . ونظيره في إضافة اسم الفاعل { غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ } [ غافر : 3 ] فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد ، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم . ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف ، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى : { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * غَافِرِ ٱلذَّنبِ } [ غافر : 2 - 3 ] . الثانية : قرئ { ضَنكاً } بالتنوين على أنه مصدر وصف به ، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين . كما قال ابن مالك : @ وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا @@ وفي القاموس : الضنك : الضيق في كل شيء ، للذكر والأنثى . يقال : ضَنُكَ ككرم ، ضنكا وضناكة وضنوكة ، ضاق . وقال السمين : { ضنَكاً } : صفة معيشة . وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث . ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد . وقرأ الجمهور { ضنَكاً } بالتنوين وصلاً ، وإبداله ألفاً وقفاً ، كسائر المعربات . وقرأت فرقة ( ضنكي ) بألف كسكري . وفي هذه الألف احتمالان : فإما أن تكون بدلاً من التنوين ، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف ، وإما أن تكون ألف التأنيث بنى المصدر على ( فعلى ) نحو دعوى . الثالثة : ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً : إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين . والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخرويّ . قال ابن كثير : أي : ضنكاً في الدنيا ، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره . بل صدره ضيّق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ، ولبس ما شاء ، وأكل ما شاء . وسكن حيث شاء . فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك . فلا يزال في ريبه يتردد . فهذا من ضنك المعيشة . انتهى . وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس ، فوق كل الأهواء والذات والمآرب . فالضنك المعنيّ بها إذن : هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيويّ ، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام . فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس ، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك إلا من كابر حسه وناقض وجدانه . فإن دين الإسلام هو دين الفطرة . دين اليسر . دين العقل . دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها ، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها ، وتستنير به من ظلماتها . ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً . ألق نظرك على الأديان كلها ، وقابل بينها وبينه ، لتدرك ذلك . هذه اليهودية ، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق . قيود في المأكل والمشرب . وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة . وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات ، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون . دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات . وهذه النصرانية ، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح ، ومضيّ عصر الحواريين . فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية . وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود . وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى . فإنه عليه السلام قال : ( ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه ) . فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها ، اعتقادا وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر ، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاًّ وإبراماً ، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات ، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحيّ حقاً . إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض ، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته ! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس ، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية ، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم مننا لا تنكر ، أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون ، ومعاداتها للعلوم . وجرى بإغراء الكهنة من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ . ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح . وتفرقوا أحزاباً . ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام ، بنبذهم سخائف ما ورثوه . ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مّما هم عليه ، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم أفسدت عليهم ما أفسدت . ولن يتسنى لهم الرقيّ إلا بالرجوع إلى دين الفطرة . وهم يسعون إليه وإن كانوا لا يشعرون ، أو يشعرون ويتجاهلون . هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين ، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين . فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى . ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها ، لكثرة خرافاتها وضررها ، نفساً ومالاً وعرضاً . فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب . ومن نجا من ويلاتها بالإسلام ، لا يعد ولا يحصى . وقس على هؤلاء ، الطائفة المسماة بالماديين . وهم الدهريون والطبيعيون . فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد . بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته . قال بعضهم : هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله ، ويكون مستقيماً في أعماله ، إذا سئلوا : ما هو الدين الطبيعيّ الذي تعترفون به ؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي . فيقال لهم : العقل من حيث هو ، ضعيف متغيّر قاصر . يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأ . ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح ، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه . تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه ، فكيف يكون صاحبه مستقيما في أعماله ؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء ؟ وكلٌّ يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم ! ! فالصينيّ مثلا يرى نفسه مستقيما ولو باع أو قتل أولاده . والهنديّ يرى هذه الاستقامة في نفسه ، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها . والوثنيّ يرى نفسه مستقيما ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة . هذا ، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون ، ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة . فأنّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعيّ يقبله كيف شاء ، ويجعله كشيء مرن ، يمده إلى ما طاب له ، ويقصره عن كل ما عافه ؟ فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم . وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة ، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه ؟ وإذا سلمنا ، مجاراة ، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة ، فيحمله طبعه على ذلك ، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات . لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمارة بالسوء ، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم . فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم ، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر . وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها . فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها . وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية ، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة . وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان ، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه مثلا ، كيف يمكن للإنسان ، ولو مهما تعامى في الشر ، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان ؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية . ومن بحث عن عموم سكان البسيطة ، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع ، وإن اختلفت في بعض موادها . والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها . وإلا فهي دمار لنظام العالم ، وجائحة للأدب ، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين ، من عهد آدم إلى يومنا هذا . وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنسانيّ ، والإجحاف بالشرائع الأدبية . لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر ، أطلق لنفسه عنان الفاسد ، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب ، قضاءً لما يحسبه من سعادته ، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة . وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة . ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته . إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ , ولا حرمة للسنن والشرائع , ولا برٌّ بالملوك ولا عدل بالرعية ، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران . وبالجملة ، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية ، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية ، تصدّ الفاجر عن الفجور . فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية ، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية . فلا حياة للموجودات الحية دون هواء ، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة . انتهى . وقال إمام مدقق ، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها ، ما مثاله : إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف ، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة . لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة . كأن لهم في لذة ألماً ، وبإزاء كل فرح ترحاً ، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم . فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها . كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم بكأس من الرحيق . فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه ، لأنه دواؤهم الوحيد . ما سر هذا الأرق والضجر ، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية ، وهما الأمران اللذان عليهما ، كما يزعمون مدار السعادة الإنسانية ؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية ، مع تهذيبهم بأنواع العلم ، وهو كما يزعمون ، الشافي للناس من نزعات الوسواس ؟ . أما يدلنا هذا الضجر السريّ على أن النفس تائقة لأمر ما ، إن غاب على الإنسان علمه ، فقد دله عليه أثره . وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين ، ولا سكنى القصور ، ولا أكل الصنوف ، ولا سماع العيدان ، ولا مغازلة الغيد . بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباءً ، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً … ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت وهامت به وسكرت ، ورضيت به وقنعت ؟ هو لا شك صحة المعتقد ، وإليك الدليل : ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء . ولا من طينة هذه المادة العمياء ، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة ، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة . بل هي من طبيعة نورانية محضة . فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة ، لتشرف على حضرة القدس المنيفة ، وتطل على حظائرها الشريفة . النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية ، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية . فمهما غالط الإنسان نفسه ، بجمع المال ورفاهة الحال ، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه ، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة ، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة . فإن تبصر في أمره ، واكتنه حقيقة سره ، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها ، سكن فؤاده وآب إليه رشاده . ولو كان جسمه بين القنا والقنابل . وحاله من الفقر في أخس المنازل . فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها ، وإمتاعها بطلبتها ، من صحة العقيدة ؟ السبيل لذلك هو العقل السليم . العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه ، ومنحة من أفضل منح الله عليه ، لو استعمل فيما وضع له ، واعتنى بصحته واعتداله . بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم ، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده . ويستكنه سير النواميس السائدة عليه ، فيستدل بها على وجود الخالق عز وجل ، وعلى تنزه أفعاله عن البعث ، وصنائعه عن اللهو . كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته ، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة . بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية . فيرى نواميس رقيّها وهبوطها ، وأسباب رفعتها وضعتها . ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين . فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به ، وفي الآثار التي تركوها على معنى النبوّة وضرورتها للبشر . وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات ، وفي تباين الملل والديانات . بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال . فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة . ويعثر بتعضيد العلم والبدائة على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها ، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه . الرابعة : رأيت للإمام ابن القيّم ، رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه : ( الجواب الكافي ) و ( مفتاح دار السعادة ) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية ، فإنها جديرة بذلك . قال في ( الجواب الكافي ) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي : ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة . قال : وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر . ولا ريب أنه من المعيشة الضنك . والآية تتناول ما هو أعمّ منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى . فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره . فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه ، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم . ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب ، والأمانيّ الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه ، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة ، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر . فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر . فإنه يفيق صاحبه ، ويصحو . وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات . فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي البرزخ ويوم المعاد . ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق ، وكل معبود سواه باطل ، فمن قرت عينه بالله ، قرت به كل عين . ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة ، والحسنى يوم القيامة . فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين . ونظير هذا قوله تعالى : { لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ ٱلْمُتَّقِينَ } [ النحل : 30 ] ونظيرها قوله تعالى : { وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 3 ] ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة ، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين ، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته ، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة ، هو النعيم على الحقيقة . ولا نسبة لنعيم البدن إليه ، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه ، لجالدونا عليه بالسيوف . وقال آخر : إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيّب . وقال آخر : إن في الدنيا جنة ، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة . من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة . وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله : " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا . قالوا : وما رياض الجنة ؟ قال : حلق الذكر " وقال : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " ولا تظن أن قوله تعالى : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] يختص بيوم المعاد فقط ، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة . وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة . وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته ؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم ؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 83 - 84 ] وقال حاكياً عنه أنه قال : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] والقلب السليم : هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة . فسلم من كل آفة تبعده من الله ، وسلم من كل شبهة تعارض خبره ، ومن كل شهوة تعارض أمره . وسلم من كل إرادة تزاحم مراده . وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله . فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا ، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد . انتهى ملخصاً . وقال رحمه الله في ( مفتاح دار السعادة ) : فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } بعذاب القبر . وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر . ولهذا قال : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } أي : تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا . فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار ، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] فهذا في البرزخ { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] فهذا في القيامة الكبرى . ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] فقول الملائكة : { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } [ الأنعام : 93 ] المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت . ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [ لأنفال : 50 ] فهذه الإذاقة في البرزخ . وأولها حين الوفاة ، فإنه معطوف على قوله : { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره . وكلاهما واقع وقت الوفاة . وفي الصحيح ، عن البراء بن عازب في قوله : { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ إبراهيم : 27 ] قال : نزلت في عذاب القبر . والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر . والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى ، بأن له معيشة ضنكا ، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النحل : 97 ] فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة ، وفي الآخرة بأحسن الجزاء . وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ، ونسيانه في العذاب في الآخرة . وقال سبحانه : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 36 - 37 ] فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به ، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله . فكان عقوبة هذا الإعراض ، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه . وهو يحسب أنه مهتد . حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه ، وعاين هلاكه وإفلاسه قال : { يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [ الزخرف : 38 ] وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله ، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة . فإن قيل : فهل لهذا عذر في ضلاله ، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 37 ] ؟ قيل : لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال ، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول . ولو ظن أنه مهتد ، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى . فإذا ضل فإنما أُتَى من تفريطه وإعراضه . وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة ، وعجزه عن الوصول إليها ، فذاك له حكم آخر . والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول . وأما الثاني : فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] وقال تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] وقال تعالى في أهل النار : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] وقال تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ * بَلَىٰ قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [ الزمر : 56 - 59 ] وهذا كثير في القرآن . الخامسة : قال ابن القيم : اختلف في قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ } هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر ؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة ، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] وقوله { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ قّ : 22 ] وقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] وقوله : { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 6 - 7 ] ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ ٱلذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] وقوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } [ الطور : 13 - 15 ] وقوله : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] والذين رجحوا أنه من عمى البصر ، قالوا : السياق يدل عليه لقوله : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط ، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق . فكيف يقول : { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله : { كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } ؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله . فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته ، أعمى الله به بصره يوم القيامة ، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا ، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة . وعلى تركه ذكره ، تركه في العذاب . وقال تعالى : { وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] وقد قيل في هذه الآية أيضاً : إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى . كما قيل في هذه الآية قوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } [ طه : 124 ] قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون . ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم ، المضادّ للبصر والسمع والنطق ، قال : هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق . فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه . وهذا قد روي عن ابن عباس قال : لا يرون شيئاً يسرهم . وقال آخرون : هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة ، يخرجون من الدنيا كذلك . فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك . ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد . وهذا مرويّ عن الحسن . وقال آخرون : هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها . سلبوا الأسماع والأبصار والنطق ، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى : { قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم ، عمياً بكماً صمّاً ، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون . ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق . وهذا منقول عن مقاتل . والذين قالوا : المراد به العمي عن الحجة ، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم ، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً ، هم عُمْيٌ عنها ، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا . فإن العبد يموت على ما عاش عليه . ويبعث على ما مات عليه . وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر ، وأنه عمي البصر . وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً ، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا . فليس هو أعمى عن الحق يومئذ . وفصل الخطاب ؛ أن الحشر هو الضم والجمع . ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة ، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إنكم محشورون إليّ حفاة عُراة " وكقوله تعالى : { وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] وكقوله تعالى : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر . فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة . وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار ؛ لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا : { يٰوَيْلَنَا هَـٰذَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * هَـٰذَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ الصافات : 20 - 21 ] ثم قال تعالى : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] الآية وهذا الحشر الثاني . وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني ، يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون ، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما . ولكل موقف حال يليق به ، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته . فالقرآن يصدق بعضه بعضا { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . انتهى . السادسة : قوله تعالى : { وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ … } أي : لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك ، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها . كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك { فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا } [ الأعراف : 51 ] فإن الجزاء من جنس العمل . فالنسيان مجاز عن الترك . قال ابن كثير : فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه ، والقيام بمقتضاه فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص . وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى . فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك . روى الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل قرأ القرآن فنسيه ، إلا لقي الله يوم يلقاه ، وهو أجذم " . السابعة : قوله تعالى : { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ … } [ طه : 127 ] الآية ، أي : وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة . وعذاب الآخرة أشد وأبقى ، من ضنك العيش في الدنيا ؛ لكونه دائما . ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب ، بقوله سبحانه : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ … } .