Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 79-79)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَفَهَّمْنَاهَا } أي : الفتوى أو الحكومة المفهومين من السياق { سُلَيْمَانَ } أي : فكان القضاء فيها قضاءه ، لا قضاء أبيه . روي عن ابن عباس أن غنما أفسدت زرعاً بالليل ، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فقال سليمان : بل تؤخذ الغنم فتدفع إلى أصحاب الزرع فيكون لهم أولادها وألبانها ومنافعها . ويبذر أصحاب الغنم لأهل الزرع مثل زرعهم فيعمروه ويصلحوه ، فإذا بلغ الزرع الذي كان عليه ليلة نفشت فيه الغنم ، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها . وكذا روي عن ابن مسعود موقوفاً لا مرفوعاً . والله أعلم بالحقيقة . وقوله تعالى : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } أي : وكل واحد منهما آتيناه حكمة وعلما كثيراً ، لا سليمان وحده . ففيه دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهم ، من عدم كون حكم داوُد عليه السلام حكما شرعيّاً . تنبيهات الأول : استدل بالآية على أن خطأ المجتهد مغفور له ، وعكس بعضهم ، فاستدل بالآية على أن كل مجتهد مصيب . قال : لأنها تدل بظاهرها على أنه لا حكم لله في هذه المسألة قبل الاجتهاد . وأن الحق ليس بواحد . فكذا غيرها إذ لا قائل بالفصل . إذ لو كان له فيها حكم تعين . وهذا مذهب المعتزلة ، كما بيّن في الأصول . وردّ بأن مفهوم قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } لتخصيصه بالفهم دون داود عليه السلام ، يدل على أنه المصيب للحق عند الله . ولولاه لما كان لتخصيصه بالفهم معنى . والمستدلون يقولون : إن الله لما لم يخطئه ، دل على أن كلا منهما مصيب . وتخصيصه بالفهم لا يدل على خطأ داوُد عليه السلام ، لجواز كون كلّ مصيباً . ولكن هذا أرفق وذاك أوفق ، بالتحريض على التحفظ من ضرر الغير . فلذلك استدل بهذه الآية كلٌّ . فكما لم يعلم حكم الله فيها ، لم يعلم تعين دلالتها . كذا في ( العناية ) . وجاء في ( فتح البيان ) ما مثاله : لا شك أنها تدل على رفع الإثم عن المخطيء ، وأما كون كل واحد منهما مصيباً فلا تدل عليه هذه الآية ولا غيرها ، بل صرح الحديث المتفق عليه في الصحيحين وغيرهما : أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر . فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم مخطئاً . فكيف يقال إنه مصيب لحكم الله موافق له ؟ فإن حكم الله سبحانه واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين . وإلا لَزم توقف حكمه عز وجل على اجتهادات المجتهدين ، واللازم باطل فالملزوم مثله . وأيضا يستلزم أن يكون العين التي اختلف فيها اجتهاد المجتهدين ، بالحلّ والحرمة ، حلالا وحراماً في حكم الله سبحانه . وهذا اللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله . وأيضا يلزم أن حكم الله سبحانه لا يزال يتجدد عند وجود كل مجتهد له اجتهاد في تلك الحادثة ، ولا ينقطع ما يريده الله سبحانه وتعالى فيها إلا بانقطاع المجتهدين . واللازم باطل فالملزوم مثله . والحاصل أن المجتهدين لا يقدرون على إصابة الحق في كل حادثة . لكن لا يصرون على الخطأ . كما رجع داود هنا إلى حكم سليمان ، لما ظهر له أنه الصواب . قال الحسن : لولا هذه الآية ، لرأيت الحكام قد هلكوا ، ولكن الله حمد هذا بصوابه ، وأثنى على هذا باجتهاد . الثاني : دلت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام . وهو مذهب الجمهور . ومنعه بعضهم . ولا مسند له . لأن قضاء داود لو كان بوحي لما أوثر قضاء ابنه سليمان عليه . ومما يدل على وقوعه دلالة ظاهرة قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] فعاتبه على ما وقع منه . ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه . ومنه ما صح عنه صلوات الله عليه من قوله : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدْي " ومثل ذلك لا يكون فيما عمله بالوحي ، ونظائر ذلك كثيرة في الكتاب والسنة . وأيضاً ، فالاستنباط أرفع درجات العلماء . فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل . وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب . قال الرازيّ : إذا غلب على ظن نبيّ أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ، ثم علم أو ظن قيام ذلك معنى في صورة أخرى ، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل . وعنده مقدمة يقينية ، وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب . فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون . وعند هذا ، إما أن يقدم على الفعل والترك معا ، وهو محال ، لاستحالة الجمع بين النقيضين . أو يتركهما وهو محال ، لاستحالة الخلّو عن النقيضين . أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل ، أو يرجح الراجح على المرجوح ، وذلك هو العمل بالقياس - وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس . وهي قائمة أيضا في حق الأنبياء عليهم السلام . انتهى . الثالث : قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : استدل بها على جواز الاجتهاد في الأحكام ووقوعه للأنبياء . وقد ذكرناه قبل . وأن المجتهد قد يخطئ ، وأنه مأجور مع الخطأ غير آثم ، لأنه تعالى أخبر بأن إدراك الحق مع سليمان ، ثم أثنى عليهما . وقد تقدم أولاً . واستدل بها من قال برجوع الحاكم بعد قضائه من اجتهاد إلى أرجح منه . وفيها تضمين أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار . لأن النفش لا يكون إلا بالليل ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن شريح والزهري وقتادة . ومن عمم الضمان فسره بالرعي مطلقاً . وذهب قوم منهم الحسن إلى أن صاحب الزرع تدفع إليه الماشية , ينتفع بدرّها وصوفها حتى يعود الزرع كما كان . كما حكم به سليمان في هذه الواقعة . إذ لم يرد في شرعنا ناسخ مقطوع به عندهم . انتهى . الرابع : روى ابن جرير عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي . فقال شريح : نهاراً أم ليلاً ؟ فإن كان نهاراً فقد برئ صاحب الشياه . وإن كان ليلاً فقد ضمن ، ثم قرأ هذه الآية . قال ابن كثير : وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن محيّصة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً . فأفسدت فيه . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط ، حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها . وقد عُلّل هذا الحديث . وروى ابن أبي حاتم أن إياس بن معاوية ، لما استقضى أتاه الحسن ، فبكى . فقال : ما يبكيك ؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار . ورجل مال به الهوى فهو في النار . ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصريّ : إن فيما قصّ الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء ، حكماً يردّ قول هؤلاء الناس عن قولهم . قال الله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ … } [ طه : 78 ] الآية . فأثنى الله على سليمان ، ولم يذمّ داود . ثم قال : ( يعني : الحسن ) : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا : لا يشتروا به ثمناً قليلا . ولا يتبعوا فيه الهوى . ولا يخشوا فيه أحداً . ثم تلا : { يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ٱلأَرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ صّ : 26 ] وقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] وقال : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] . ثم قال ابن كثير : وقد ثبت في صحيح البخاريّ عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران . وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " ، فهذا الحديث يردّ نصّاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار . وفي السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة وقاضيان في النار . رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة . ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار " . ثم بيّن سبحانه ما خص كلا من داود وسليمان من كراماته ، إثر بيان كرامته العامة لهما ، بقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } أي : سخرنا الجبال والطير يقدسن الله معه ، بصوت يتمثل له أو يُخْلَقُ فيها . قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه ( الزبور ) وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه . وترد عليه الجبال تأويباً ، ولهذا " لما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعريّ وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيّب جداً ، فوقف واستمع لقراءته وقال : " لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود " قال : يا رسول الله ! لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيراً " . وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا يربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه . انتهى . وتقديم الجبال على الطير ؛ لأن تسبيحها أعجب وأدل القدرة ، وأدخل في الإعجاز ؛ لأنها جماد . والتذييل بقوله : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } إشارة إلى أنه ليس ببدع في جانب القدرة الإلهية ، وإن كان عند المخاطبين عجيباً . وهذه الآية كقوله تعالى في سورة ( ص ) : { ٱصْبِر عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ * وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } [ صّ : 17 - 19 ] .