Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 21, Ayat: 87-88)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ * فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : اذكر ذا النون يعني : صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السلام ، وصبره على ما أصابه ، ثم إنابته ونجاته ، ليثتبت في نبئه فؤادك ويقوى على الصبر على ما يقوله الطغاة جنانك . وهذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة ( الصافات ) وفي سورة ( ن ) . وذلك أن يونس بن متى عليه السلام ، أمره الله أن ينطلق إلى أهل نينوى - من أرض الموصل ، كرسي سلطنة الأشوريين ليدعوهم إلى الإيمان به تعالى وحده ، وإلى إقامة القسط ونشر العدل وحسن السيرة . وكانوا على الضد من ذلك ، تعاظم كفرهم وتزايد شرهم . فخشي أن لا يتم له الأمر معهم ، فأبق من بيت المقدس إلى يافا . ونزل في سفينة سائرة إلى ترشيش ليقيم فيها . فأرسل الله ريحاً شديدة على البحر ، أشرفت السفينة معه على الغرق . فتخفف الركاب من أمتعتهم فلم يفد ، فوقع في أنفسهم أن في السفينة شخصاً سيهلكون بسببه ، فاقترعوا لينظروا من هو ، فخرجت القرعة على يونس ، فقذفوه في البحر وسكن جيشانه وتموجه . وهيأ الله حوتاً ليونس فابتلعه ، فمكث في جوف الحوت ثلاثة أيام . ثم دعا ربه فاستجاب له ، وألقاه الحوت على الساحل . ثم أوحى الله إلى يونس ثانية بالمسير إلى نينوى ، ودعوتها إلى الله تعالى ، فوصلها ونادى فيهم بالتوحيد والتوبة . وتوعدهم إن لم يؤمنوا أن تنقلب بهم نينوى ، فلما تحققوا ذلك آمنوا . فرفع الله عنه العذاب ، قال تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [ يونس : 98 ] . تنبيهات الأول : يونس عليه السلام يسمى في التوراة ( يونان ) وهو عبرانيّ . ويقال : إنه من جَت حافَر وهي قرية في سبط زبولون ، في شمال الأرض المقدسة . وإنه نُبِّئ قبل المسيح بنحو ثمانمائة سنة . والله أعلم . الثاني : أكثر المفسرين ( كما حكاه الرازيّ ) : على أن يونس ذهب مغاضباً لربه . وأنه ظن بإباقه إلى الفلك ، وتركه المسير إلى نينوى أولاً ، أن يترك ولا يقاصّ . قال بعض المحققين : إنما خالف يونس أولاً الأمر الإلهيّ وترخص فيه ، مخافة أن يظن أنه نبيّ كاذب إذا تاب أهل نينوى وعفا الله عن جرمهم . وإيثار صيغة المبالغة في { مُغَاضِباً } للمبالغة . لأن أصله يكون بين اثنين ، يجهد كل منهما في غلبة الآخر . فيقتضي بذل المقدور والتناهي . فاستعمل في لازمه للمبالغة ، دون قصد ( مفاعلة ) وقد استدل بظاهر هذه الآية وأمثالها ، من ذهب إلى جواز صدور الخطأ من الأنبياء ، إلا الكذب في التبليغ ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ فيه ، لأنه حجة الله على عباده . وإلا ما يجري مجرى بيان الوحي ، فإنه لا يجوز عليهم الخطأ في حال بيان المشروع . وهو قول الكرامية في المرجئة ( كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ) . وقول الباقلانيّ من الأشعرية : ( على ما حكاه ابن حزم في الملل ) : وأما الجمهور المانعون من ذلك ، فلهم في هذه الآية وأشباهها تأويلات . ونحن نؤثر ما قاله ابن حزم في هذا المقام ، لأنه أطلق لساناً . قال رحمه الله ( بعد أن حكى مذهب الكرامية المذكور ) : وذهب أهل السنة والمعتزلة والنجاريّة والخوارج والشيعة إلى أنه لا يجوز البتة أن يقع من نبيّ معصية بعمد ، لا صغيرة ولا كبيرة . ثم قال : وهذا القول الذي ندين لله تعالى به . ولا يحل لأحد أن يدين بسواه . ونقول : إنه يقع من الأنبياء السهو عن غير قصد . ويقع منهم أيضا قصد الشيء يريدون به وجه الله تعالى ، والتقرب به منه . فيوافق خلاف مراد الله تعالى . إلا أنه تعالى لا يقرهم على شيء من هذين الوجهين أصلا ، بل ينبههم على ذلك ولا بد ، إثر وقوعه منهم . وربما يبغض المكروه في الدنيا ، كالذي أصاب آدم ويونس والأنبياء عليهم السلام ، بخلافنا في هذا . فإننا غير مؤاخذين بما سهونا فيه ، ولا بما قصدنا به وجه الله عز وجل ، فلم يصادف مراده تعالى . بل نحن مأجورون على هذا الوجه أجراً واحداً . ثم قال ( في الكلام على يونس عليه السلام ) : وأما إخبار الله تعالى أن يونس ذهب مغاضباً ، فلم يغاضب ربه قط ، ولا قال الله تعالى إنه غاضب ربه . فمن زاد هذه الزيادة كان قائلا على الله الكذب ، وزائداً في القرآن ما ليس فيه . هذا لا يحل ولا يجوز أن يظن بمن له أدنى مسكة من عقل , أنه يغاضب ربه تعالى . فكيف أن يفعل ذلك نبيٌّ من الأنبياء ؟ فعلمنا يقيناً أنه إنما غاضب قومه ، ولم يوافق ذلك مراد الله عز وجل ، فعوقب بذلك . وإن كان يونس عليه السلام لم يقصد بذلك إلا رضاء الله عز وجل . وأما قوله تعالى : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } فليس على ما ظنوه من الظن السخيف الذي لا يجوز أن يظن بضعيفة من النساء أو بضعيف من الرجال . إلا أن يكون قد بلغ الغاية من الجهل . فكيف بنبيّ مفضل على الناس في العلم ؟ ومن المحال المتيقن أن يكون نبيّ يظن أن الله تعالى الذي أرسله بدينه لا يقدر عليه . وهو يرى أن آدمياً مثله يقدر عليه . ولا شك في أن من نسب هذا للنبيّ صلى الله عليه وسلم الفاضل ، فإنه يشتد غضبه لو نسب ذلك إليه أو إلى ابنه . فكيف إلى يونس بن متى الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفضلوني على يونس بن متى " ؟ فقد بطل ظنهم بلا شك ، وصح أن معنى قوله : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي : لن نضيق عليه كما قال تعالى : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [ الفجر : 16 ] أي : ضيق عليه . فظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يضيق عليه في مغاضبته لقومه ، إذ ظن أنه محسن في فعله ذلك : وإنما نهى الله عز وجل ، محمداً صلى الله عليه وسلم عن أن يكون كصاحب الحوت ، فنعم ، نهاه الله عز وجل عن مغاضبة قومه ، وأمره بالصبر على أذاهم وبالمطاولة لهم . وأما قوله تعالى : أنه استحق الذم والملامة ، لولا النعمة التي تداركه بها ، للبث معاقباً في بطن الحوت ، فهذا نفس ما قلناه من أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون في الدنيا على ما فعلوه ، مما يظنونه خيراً وقربة إلى الله عز وجل ، إذا لم يوافق مراد ربهم . وعلى هذا الوجه أقر على نفسه بأنه كان من الظالمين . والظلم وضع الشيء في غير موضعه . فلما وضع النبيّ صلى الله عليه وسلم المغاضبة في غير موضعها ، اعترف في ذلك بالظلم . لا على أنه قصده وهو يدري أنه ظلم . انتهى كلام ابن حزم . وأقول : إن الذي يفتح باب الإشكالات هو التعمق في الألفاظ . والتنطع في شرحها وتوليد معاني ولوازم لها ، والتوسع في وجوهها توسعاً يميت رونق التركيب ونصاعة بلاغته . ومعلوم أن التنزيل الكريم فاق سائر أساليب الكلام المعهودة بأسلوبه البديع . ولذا كانت آية تأخذ بمجامع القلوب رقة وانسجاماً . وبلاغة وانتظاماً . فلا ترى في كلمه إلا المختارات لطفاً ، ولا في جمله إلا الفخيمات تركيباً ، ولا في إشاراته إلا الأقوى رمزاً ، ولا في كناياته إلا الأعلى مغزى . ومن ذلك سنته في الملام والوعيد من إفراغ القول في أبلغ قالب شديد ، مما يؤخذ منه شدة الخطب ، وقوة العتب وذلك لعزة الجناب الإلهي والمقام الربانيّ . فالعربي البليغ طبعاً ، الذائق جبلة ، إذا تلي عليه مجمل نبأ يونس عليه السلام في هذه الآية ، يدهش لما ترمي إليه من قوة العتب والملام ، وأنه بإباقه غاضب مولاه ، غضباً لا يماثل الغضب على العصاة . فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين . وأنه ظن أن يُنسى فلا يؤاخذ . ويفلت فلا يحصر . فأتاه ما لم يكن على بال . ووقع في شرك قدرة المتعال ، ثم تداركته النعمة ، ولحقته الرحمة . هذا مجمل ما يفهم من الآية منطوقاً ومفهوماً . فافهم ما ذكرته لك . فإنه يبلغك من التحقيق أملك . الثالث : عدَّ بعض الملاحدة ابتلاع الحوت يونس محَالاً . فكتب بعض المحققين مجيباً بأن هذا إنكار لقدرة الله فاطر السماوات والأرض . الذي له في خلقه غرائب . ومنها الحيتان المتنوعة الهائلة الجثث ، التي لا يزال يصطاد منها في هذا العصر ، وفي بطونها أجساد الناس بملابسهم . وكتب آخر : لم يتعرض لتعيين نوع الحوت الذي ابتلع يونس . ولعله فيما قال قوم من المحققين ، من النوع المعروف عند بعضهم ( بالزفا ) وهو من كبار الحيتان يكون في بحر الروم واسع الحلقوم ، حتى أنه ليبتلع الرجل برمته ، دون أن يشدخه أو يجرحه . حتى يبقى في الإمكان أن يخرج منه وهو حيّ ، ومع ذلك فلم يكن بغير معجزة بقاؤه ثلاثة أيام في جوف هذا الحوت ، ولبث مالكاً رشده متمكناً من التسبيح والدعاء . انتهى . الرابع : الجمع في قوله : { فِي ٱلظُّلُمَاتِ } إما على حقيقته ، وهي ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل . وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما . أو مجاز ، يجعل الظلمة لشدتها وتكاثفها في بطن الحوت كأنها ظلمات . والمراد منها أحد المذكورات ، أو بطن الحوت . وقدمه الزمخشري ونظره بآية { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ } [ البقرة : 17 ] . الخامس : قوله تعالى : { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } أي : دعاؤه { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ } يعني : بأن قذفه الحوت إلى الساحل ، قيل لم يقل : ( فنجيناه ) كما قال في قصة أيوب عليه السلام { فَكَشَفْنَا } [ الأنبياء : 84 ] لأنه دعا بالخلاص من الضر . فالكشف المذكور يترتب على استجابته . ويونس عليه السلام لم يدع ، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته . وردّ بأن ( الفاء ) في قصة أيوب تفسيرية . والعطف هنا أيضاً تفسيري . والتفنن طريقة مسلوكة في علم البلاغة . ثم لا نسلم أن يونس لم يدع بالخلاص ولو لم يكن دعاء لم تتحقق الاستجابة . واستظهر الشهاب في سر الإتيان بالفاء ثمة ، والواو هنا غير التفنن المذكور . أن يقال : إن الأول دعاء بكشف الضر وتلطف في السؤال . فلما أجمل في الاستجابة ، وكان السؤال بطريقة الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية . وأما هنا ، فإنه لما هاجر من غير أمر ، على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام ، كان ذلك ذنباً . كما أشار إليه بقوله : { مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } فما أومأ إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه من سيئات الأبرار . فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته ، وليس ما بعده تفسيراً له ، بل زيادة إحسان على مطلوبه . ولذا عطف بالواو . انتهى . السادس : قوله : { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : إذا كانوا في غموم ، وأخلصوا في أدعيتهم منيبين ، لا سيما بهذا الدعاء ، وقد روي في الترغيب آثار : منها عند أحمد والترمذي ( دعوة ذي النون ، لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط ، إلا استجاب له ) . وقوله تعالى : { وَزَكَرِيَّآ … } .