Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 30-30)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : مقتضى إيمانكم الغض عما حرم الله تعالى النظر إليه { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } أي : عن الإفضاء بها إلى محرم ، أو عن الإبداء والكشف { ذٰلِكَ } أي : الغض والحفظ { أَزْكَىٰ لَهُمْ } أي : أطهر للنفس وأتقى للدين { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي : بأفعالهم وأحوالهم . وكيف يجيلون أبصارهم ، وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم . فعليهم ، إذ عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على تقوى وحذر ، في كل حركة وسكون . أفاده الزمخشري . تنبيهات الأول : قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية تحريم النظر إلى النساء وعورات الرجال وتحريم كشفها . أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كل شيء في القرآن من ( حفظ الفرج ) فهو من الزنا ، إلا هذه الآية والتي بعدها ، فهو أن لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا المرأة إلى عورة المرأة . انتهى . وليس بمتعين . وعليه فيكون النهي عن الزنا يعلم منه بطريق الأولى . أو الحفظ عن الإبداء يستلزم الحفظ عن الإفضاء . الثاني : إن قيل : لِمَ أتى بـ ( من ) التبعيضية في غض الأبصار وقيدها به دون حفظ الفروج ؟ مع أنه غير مطلق ومقيد في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤنمون : 5 - 6 ] لأن المستثنى في الحفظ هو الأزواج والسراري ، وهو قليل بالنسبة لما عداه . فجعل كالعدم ولم يقيد به . مع أنه معلوم من الآية الأخرى . بخلاف ما يطلق فيه البصر . فإنه يباح في أكثر الأشياء ، إلا نظر ما حرم عن قصد . فقيّد ( الغض به ) ومدخول ( من ) التبعيضية ينبغي أن يكون أقل من الباقي . وقيل : إن الغض والحفظ عن الأجانب . وبعض الغض ممنوع بالنسبة إليهم ، وبعضه جائز . بخلاف الحفظ فلا وجه لدخول ( من ) فيه . كذا في ( العناية ) . الثالث : سر تقديم عض الأبصار على حفظ الفروج ، هو أن النظر بريد الزنا ورائد الفجور ، كما قال الحماسي : @ وكنتَ إذا أرسلتَ طَرْفَكَ رَائِداً لقلبك يوماًَ ، أتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ @@ ولأن البلوى فيه أشد وأكثر . ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه . فبودر إلى منعه . ولأنه يتقدم الفجور في الواقع ، فجعل النظم على وفقه . الرابع : غض البصر من أجلّ الأدوية لعلاج أمراض القلوب . وفيه حسم لمادتها قبل حصولها . فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس . ومن أطلق لحظاته ، دامت حسراته . @ كل الحوادثِ مبداها من النظرِ ومعظمُ النَّارِ من مستصغَرِ الشّرَرِ @@ قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ( الجواب الشافي ) : في غض البصر عدة منافع : أحدها : امتثال أمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده . وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك و تعالى . وما سعد من سعد في الدنيا والآخرة ، إلا بامتثال أوامر ربه . وما شقى من شقى في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره . الثاني : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه ، إلى قلبه . الثالث : أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعية على الله . فإن إطلاق البصر يفرّق القلب ويشتته ويبعده من الله . وليس على العبد شيء أضر من إلى إطلاق البصر . فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه . الرابع : أنه يقوي القلب ويفرحه . كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه . الخامس : أنه يكسب القلب نوراً . كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة ، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر ، فقال : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } [ النور : 30 ] ثم قال إثر ذلك : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] أي : مثل نوره في قلب عبده المؤمن ، الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه . وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب . كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان . فما شئت من بدعة وضلالة ، واتباع هوى واجتناب هدى ، وإعراضٍ عن أسباب السعادة ، واشتغال بأسباب الشقاوة . فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب . فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حناديس الظلام . السادس : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب . وكان شاه بن شجاع الكرمانيّ يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، واعتاد أكل الحلال - لم تخطئ له فراسة . وكان شجاع هذا لا تخطئ له فراسة ، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله . ومن ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه بأن يطلق نور بصيرته عوضا عن حبسه بصرَه لله . ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة ، والفراسة الصادقة المصيبة ، التي إنما تنال ببصيرة القلب . وضد هذا مما وصف الله به اللوطية من العمه الذي هو ضد البصيرة ، فقال تعالى : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه هو فساد البصيرة . فالتعلق بالصور يوجب إفساد العقل ، وعمه البصيرة يسكر القلب ، كما قال القائل : @ سُكرانِ : سكر هوىً وسُكرُ مُدامةٍ ومتى إفَاقَةُ مَنْ بِه سُكْرَانِ ؟ @@ وقال الآخر : @ قالوا : جُننتَ بمن تهوى ، فقلتُ لهم : العشقُ أعظمُ مما بالمجانينِ لعشق لا يستفيقُ الدهرَ صاحبُه وإنما يُصْرعَ المجنونُ في الحينِ @@ السابع : أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة . ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة . كما في الأثر : ( الذي يخالف هواه يَفْرَق الشيطان من ظله ) . وضد هذا تجده في المتبع هواه ، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها . وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه . كما قال الحسن : إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، فإن المعصية لا تفارق رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه . وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته ، والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] والإيمان قول وعمل ظاهر وباطن ، وقال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] أي : من كان يريد العزة فليطبها بطاعة الله وذكره ، من الكلم الطيب ، والعمل الصالح . وفي دعاء القنوت : " إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت " ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه . وله من العز بحسب طاعته . ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه . وله من الذل بحسب معصيته . الثامن : أنه يسد على الشيطان مدخله من القلب . فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب ، أسرع من نفوذ الهوى في المكان الخالي . فيمثل له صورة المنظور إليه ، يزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب . ثم يعده ويمنيه . ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليه حطب المعاصي . التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة . فيصير القلب في اللهب . فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار . وتلك الزفرات والحرقات . فإن القلب قد أحاطت به نيران بكل جانب . فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور . ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة ، أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار ، وأودعت أرواحهم فيه ، إلى حشر أجسادهم ، كما أراها الله نبيه صلى الله عليه وسلم في المنام في الحديث المتفق على صحته . التاسع : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها . وإطلاقُ البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها . فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن أمر ربه ، قال تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه . العاشر : أن بين العين والقلب منفذاً وطريقاً يوجب انفعال أحدهما عن الآخر . وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده . فإذا فسد القلب فسد النظر . وإذا فسد النظر فسد القلب . وكذلك في جانب الصلاح . فإذا خربت العين وفسدت ، خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ . فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه . وإنما يسكن فيه أضداد ذلك . فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر ، تطلعك على ما وراءها . انتهى . ثم أمر الله تعالى النساء بما أمر به الرجال . وزاد في أمرهن ، ما فرضه من رفض حالة الجاهلية المألوفة قبلُ لهن ، بقوله سبحانه : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ … } .