Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 26, Ayat: 26-28)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } أي : لكونه يدعو إلى خلاف ما عقل عن الآباء . { قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي : شيئاً ما ، أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قتله . وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر ، بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة ، وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل ، وإنهم المتصفون بما رموه عليه السلام به من الجنون . تنبيه ذهب بعض المفسرين إلى أن فرعون كان من المعطلة ، لا يقر بخالق ، ولا يعترف بمعبود . لظاهر قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] وأن قومه كانوا لا يؤلهون سواه . قال ابن كثير : ومن زعم من أهل المنطق أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط . فإنه لم يكن مقرّاً بالصانع ، حتى يسأل عن الماهية ، بل كان جاحداً له بالكلية فيما يظهر . انتهى . وقدمنا أنه حقق الاكتشاف الصحيح والتاريخ الوثيق ، أنه كان من الوثنيين الغالبين . وأن له ولقومه عدة معبودين علويين وسفليين . وعليه فمعنى قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] أي : مطاع عظيم ، وكانوا لا يتحاشون من إطلاق الإله على الجبار المسيطر . فبقي سؤاله بما يحتمل أن يكون على نهج القاعدة المنطقية ، من طلب الاكتناه ، وتعجبه من جوابه ، ثم رميه بالجنون ، ثانياً ، لعدوله عن الكنه إلى الأثر . ويحتمل أن يكون لتعرفه من جهة وحدته في ربوبيته التي ادعاها موسى ، وأن تعجبه لما شاهد من الجد في الدعوة والثبات عليها ، والصدع بما يؤلم عظمته ، ويغمز جبروته ؛ وهذا هو الذي أذهب إليه ، فإن القوم بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد ، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة ، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه . وقد عول عليه كثير من أهل النظر ، ولا بأس بأن نأثر شيئاً من لطائفهم فيه . قال الرازيّ : السؤال بـ ( ما ) طلب لتعريف حقيقة الشيء . وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة ، أو بشيء من أجزائها ، أو بأمر خارج عنها ، أو بما يتركب من الداخل والخارج . أما تعريفها بنفسها فمحال ؛ لأن المعرف معلوم قبل المعرف . فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً ، وهو محال . وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها ، فهاهنا في حق واجب الوجود محال ، لأن التعريف بالأمور الداخلة ، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً ؛ لأن كل مركب ، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه . وكل واحد من أجزائه فهو غيره ؛ فكل مركب محتاج إلى غيره . وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته . وكل مركب فهو ممكن ، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً . فواجب الوجود ليس بمركب ، وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه . ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود ، إلا بلوازمه وآثاره . ثم إن اللوازم قد تكون خفية ، وقد تكون جلية . ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية ، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية . وأظهر آثار ذات واجب الوجود ، وهو هذا العالم المحسوس ، وهو السماوات والأرض وما بينهما . فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] إلا ما قاله موسى عليه السلام ، وهو أنه رب السماوات والأرض وما بينهما . فأما قوله : { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } [ الشعراء : 24 ] فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود ، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته . لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق ، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره . وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء ، وما ذاك إلا السماوات والأرض وما بينهما . فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال ، إلا هذا الجواب . ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق ، قال فرعون لمن حوله : { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } [ الشعراء : 25 ] وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني أنا أطلب منه الماهية ، وخصوصية الحقيقة ، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية . وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها ، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية ، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ ، فهذا المذكور ، إما أن يكون معرّفا لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم . أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال . لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً . فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفاً لنفسه ، وهو محال . والثاني محال ، لأن العلم بأنه أمر ما ، يلزمه اللازم الفلانيّ ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزمة ، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية . فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ ، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة ، فلم يكن كونه رباً للسماوات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله : { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] فأجاب موسى عليه السلام بأن قال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض ، إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا . وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السماوات والأرضين واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق والمؤثر . ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده ، كونهم واجبين لذواتهم . لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجودوا بعد العدم ، ثم عدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته . وما لم يكن واجباً لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر . فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول ، إليه . فقال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } يعني المقصود من سؤال ( ما ) طلب الماهية ، وخصوصية الحقيقة . والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون ، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه . فقال موسى عليه السلام : { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار ، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب ، لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وأما قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } فكأنه عليه السلام قال : إن كنت من العقلاء ، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته . وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته . فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته . وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته ، فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً ، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته . ثم قال الرازي : وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي ، هي غير معقولة للبشر . انتهى . وقال الإمام ابن حزم في ( المِلَل والنِّحَل ) في الكلام في المائية : ذهب طوائف من المعتزلة إلى أن الله تعالى لا مائية له . وذهب أهل السنة وضرار بن عمرو ، إلى أن لله تعالى مائية . قال ضرار : لا يعلمها غيره . قال ابن حزم : والذي نقول به ، وبالله تعالى التوفيق ، أن له مائية هي إنيّته نفسها ، وإنه لا جواب لمن سأل : ما هو البارئ ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام ؛ إذ سأله فرعون ( وما رب العالمين ) ؟ ونقول أنه لا جواب هاهنا لا في علم الله تعالى ولا عندنا ، إلا ما أجاب به موسى عليه السلام . لأن الله تعالى حمد ذلك منه وصدق فيه . ولو لم يكن جواباً صحيحاً تاماً لا نقص فيه ، لما حمده الله تعالى . ثم قال : ههنا نقف ولا نعلم أكثر . ولا ههنا أيضاً شيء غير هذا ، إلا ما علمنا ربنا تعالى ، من سائر أسمائه ، كالعليم والقدير والمؤمن والمهيمن وسائر أسمائه . قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] إذ كل ما أحاط به العلم فهو متناه محدود وهذا منفيّ عن الله عز وجل ، وواجب في غيره ، لوقوع العدد المحاط به في أعراض كل ما دونه تعالى ، ولا يحاط بما لا حدود له ولا عدد له . فصح يقيناً أننا نعلم الله عز وجل حقاً ، ولا نحيط به علماً . انتهى ملخصاً . ولما سمع فرعون تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة ، وشاهد شدة حزم موسى عليه السلام وقوة عزمه على دعوته ، عدل عن خطة الإنصاف إلى الاعتساف ، بقوله : { قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ … } .