Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 63-68)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَالَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي : وجب وثبت مقتضاه . وهو لحوق الوعيد بهم . والمراد بهم ، رؤساء الضلال ، وقادة الكفر والفساد { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ } أي : أضللناهم . قال أبو السعود : ومرادهم بالإشارة ، بيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم . وأنهم غير قادرين على إنكاره وردّه { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } أي : أضللناهم بالوسوسة والتسويل ، كما ضللنا باختيارنا ، وإيثار ما يفنى على ما يبقى { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ } أي : من الكفر والشرك والمعاصي . أو منهم ومما اختاروه { مَا كَانُوۤاْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } أي : بل كانوا يعبدون أهواءهم وشهواتهم { وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ } ليشفعوا لكم { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } أي : تمنوا ذلك لينقذوا من العذاب العظيم . { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } أي : الداعين إلى الهداية وإصلاح الأعمال والأخلاق { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ } أي : فصارت الأنباء كالعُمي عليهم لا تهتدي إليهم . وأصله ( فعموا عن الأنباء ) لكنه عكس مبالغة . قال الشهاب : ففيه استعارة تصريحية تبعية . استعير العمى لعدم الاهتداء . فهم لا يهتدون للأنباء . ثم قلب للمبالغة . فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم . وضمن معنى الخفاء . فعدّي بـ ( على ) . ففيه أنواع من البلاغة . الاستعارة والقلب والتضمين . والمراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل . أو ما يعمّها وغيرها من كل ما يمكن الجواب به { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي : لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب ، لفرط الدهشة . أو لعلمه بأنه مثله في العجز عن الجواب . أو لعجزهم عن النطق وكونهم مختوما على أفواههم . ثم إن هذا العيد لاحقٌ للمصرّ { فَأَمَّا مَن تَابَ } أي : من الشرك { وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ } أي : أن يفلح عند الله . و ( عسى ) من الكرام تحقيق . ويجوز أن يراد ترجي التائب وطمعه . كأنه قال : فليطمع أن يفلح . قاله الزمخشري . { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } أي : بمقتضى مشيئته وعنايته ، ما يريد { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } أي : في ذلك . بل الخيرة له في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه . قال الزمخشري : الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، تستعمل بمعنى المصدر وهو التخير ، وبمعنى المتخير . كقولهم : ( محمد خيرة الله من خلقه ) والقصد تقرير انفراده بالألوهية وحده . ولذا قال : { سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } من الأصنام والأنداد التي لا تخلق شيئاً ولا تختار . تنبيه للإمام ابن القيّم في مقدمة ( زاد المعاد ) مقالة في هذه الآية الكريمة ، جديرة بأن تؤثر عنه . قال رحمه الله : وبعد . فإن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات . قال تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } وليس المراد هاهنا بالاختيار ، الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار ، وهو سبحانه كذلك . وليس المراد بالاختيار هنا هذا المعنى . وهذا الاختيار داخل في قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } فإنه لا يخلق إلا باختياره . وداخل في قوله تعالى : { مَا يَشَآءُ } فإن المشيئة هي الاختيار . وإنما المراد بالاختيار هنا الاجتباء والاصطفاء . فهو اختيار بعد الخلق . والاختيار العام اختيار قبل الخلق . فهو أعم وأسبق . وهذا أخص وهو متأخر . فهو اختيار من الخلق والأول اختيار للخلق . وأصح القولين أن الوقف التام على قوله : { وَيَخْتَارُ } ويكون { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } نفيا . أي : ليس هذا الاختيار إليهم ، بل هو إلى الخالق وحده . فكما أنه هو المتفرد بالخلق ، فهو المتفرد بالاختيار منه . فليس لأحد أن يخلق ولا يختار سواه . فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ومحالّ رضاه ، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له . وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه . وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل ، إلى أن { مَا } في قوله تعالى : { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } موصولة وهي مفعول { يَخْتَارُ } أي : ويختار الذي لهم الخيرة . وهذا باطل من وجوه : أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد . لأن الخيرة مرفوع بأنه اسم { كَانَ } و { لَهُمُ } خبره . فيصير المعنى : ويختار الذي كان الخيرة لهم . وهذا التركيب محال من القول . فإن قيل : يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفاً ، ويكون التقدير : ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه . أي : ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره . قيل : هذا يفسد من وجه آخر . وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد . فإنه إنما يحذف مجروراً إذا جر بحرف جر الموصول بمثله ، مع اتحاد المعنى نحوه قوله تعالى : { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [ المؤمنون : 33 ] ونظائره . ولا يجوز أن يقال جاءني الذي مررت ، ورأيت الذي رغبت ، ونحوه . الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب { ٱلْخِيَرَةُ } وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول . فكأنه يقول : ويختار ما كان لهم الخيرة . أي الذي كان هو عين الخيرة لهم . وهذا لم يقرأ به أحد البتة . مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير . الثالث : أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار وإرادتهم أن يكون الخيرة لهم . ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ، ويبين تفرده بالاختيار ، كما قال تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ الزخرف : 31 - 32 ] فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه . وأخبر أن ذلك ليس إليهم . بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم . وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل ، على حسب علمه بمواقع الاختيار ، ومن يصلح له ممن لا يصلح . وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات . وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل . فهو القاسم ذلك وحده لا غيره . وهكذا هذه الآية . بيّن فيها انفراده بالخلق والاختيار . فالله سبحانه أعلم بمواقع اختياره كما قال : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة ، دون غيره . الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ولم يكن شركهم مقتضياً لإثبات خالق سواه ، حتى نزه نفسه عنه . فتأمله فإنه في غاية اللطف . الخامس : إن هذا نظير قوله في الحج : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 73 - 74 ] ، ثم قال : { ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ الحج : 75 - 76 ] . وهذا نظير قوله في القصص : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ القصص : 69 ] ، ونظير قوله في الأنعام : { ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] فأخبر في ذلك كله عن علمه المتضمن لتخصيصه محالّ اختياره ، بما خصصها به بعلمه ، بأنه يصلح له دون غيره فتقدير السياق في هذه الآيات تجده متضمناً لهذا المعنى دائراً عليه . والله أعلم . السادس : إن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } [ القصص : 65 - 68 ] فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحاً ، فكانوا صفوته من عباده ، وخيرته من خلقه ، وكان هذا الاختيار راجعاً إلى حكمته وعلمه سبحانه ، لمن هو أهل له . لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم . فسبحان الله وتعالى عما يشركون . ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فصل ) : فإذا تأملت أحوال هذا الخلق رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه ، دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته . وأنه الله الذي لا إله إلا هو ، فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبر كتدبيره . فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص ، المشهور أثره في هذا العالم ، من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ، وصفات كماله وصدق رسوله . فنشير منه إلى شيء يسير يكون منبها على ما وراءه ، دالا على ما سواه . فخلق الله السماوات سبعاً . فاختار العليا منها فجعلها مستقرّ المقربين من ملائكته واختصها بالقرب من كرسيّه ومن عرشه . وأسكنها من شاء من خلقه . فلها مزية وفضل على سائر السماوات . ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى . وهذا التفضيل والتخصيص ، مع تساوي مادة السماوات ، من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار . ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان ، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها . وفي بعض الآثار : إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه . ومن هذا اختياره من الملائكة ، المصطفين منهم على سائرهم . كجبريل وميكائيل وإسرافيل . وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم . واختيار الرسل منهم واختياره أولي العزم منهم . واختياره منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهم وسلم . ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس أنواع بني آدم . ثم اختار منهم نبي كنانة بن خزيمة . ثم اختار من ولد كنانة قريشاً . ثم اختار من قريش بني هاشم . ثم اختار من بني هاشم ، سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم . وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين . واختار منهم السابقين الأولين . واختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان . واختار لهم من الدين أكمله ، ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها . واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم . ومن هذا : اختياره سبحانه و تعالى من الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها وهي البلد الحرام فإنه سبحانه اختاره لنبيّه ، وجعله مناسك لعباده . وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق . فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين ، كاشفي رؤوسهم ، متجردين عن لباس أهل الدنيا . وجعله حرماً آمناً لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر له صيد ولا يختلى خلاه ، ولا يلتقط لُقَطته للتملك . بل للتعريف ليس إلا . ومن هذا تفضيله بعض الأيام والشهور على بعض . فخير الأيام عند الله يوم النحر . وهو يوم الحج الأكبر كما في ( السنن ) . وأفضل الشهور شهر رمضان . وعشره الأخير أفضل الليالي . وليلة القدر أفضل من ألف شهر . ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع . ويوم عرفة ويوم النحر أفضل أيام العام . انتهى ملخصاً . وقد أوسع المقال وجوّد الاستدلال . فرحمه الله ورضى عنه وأرضاه . وقوله تعالى : { سُبْحَانَ ٱللَّهِ } أي : تنزيهاً لله الذي لا يزاحم اختياره اختيارٌ { وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .