Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 121-121)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِذْ غَدَوْتَ } أي : خرجت { مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ } أي : تنزل { ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ } أي : أماكن ومراكز يقفون فيها { لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ذهب الجمهور وعلماء المغازي إلى أن هذه الآية في وقعة أُحُد ، والسر في سوق هذه الوقعة الأُحُدِيَّة وإيلائها البدرية ، هو تقرير ما سبق . فإن المدعي فيما قبلها المساءة بالحسنة والمسرة بالمصيبة وسنة الله تعالى فيهم في باب النصر والمعونة ودفع مضار العدوّ ، إذا هم صبروا واتقوا ، والتغيير إذا غيروا . أي : اذكر لهم ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين لم يصبروا في أُحُد ، فأصيبوا وسرَّت الأعداء مصيبتكُم ، وحين صبروا واتبعوا فنُصِروا وساء العدوَّ نصرُهم . وفي توجيه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم تهييج لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل ، من غير أدنى وقوف مع المألوف - كذا يستفاد من تفسير البقاعيّ . وهذه الآية هي افتتاح القصة ، وقد أنزل فيها ستون آية ، وأشير في هذه السورة إلى بعض الحكم ، والغايات المحمودة التي كانت في هذه الوقعة ، كما سيذكر ، وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وكان سببها أن الله تعالى لما قتل أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ، وجاءوا إلى أطراف المدينة في غزوة السَّوِيق ، ولم ينل ما في نفسه ، أخذ يؤلّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش . وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا ليحاموا عنهن . ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أُحُد ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه : أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة ، وأن يتحصنوا بها ، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أُبي . وكان هو الرأي . فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، وألحوا عليه في ذلك ، فنهض ودخل بيته ، ولبس لأمَتَهُ ، وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك الملحّين ، وقالوا : أكْرَهْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على الخروج ، فقالوا : يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ينبغي لنبيّ ، إذا لبس لأمَتَه ، أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه " . وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين في المدينة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا وهو بالمدينة : رأى أن في سيفه ثلمة ، ورأى أن بقرا تذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة . فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته ، وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون . وتأول الدرع بالمدينة . فخرج يوم الجمعة ! فلما صار بالشَّوْط ، بين المدينة وأُحُد ، انخزل عنه عبد الله بن أُبيّ في ثلث الناس ، مغاضباً لمخالفة رأيه في المقام . فتبعهم عبد الله بن عمرو ، والد جابر ، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ، أو ادفعوا . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع . فرجع عنهم وسبَّهم ، وسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى ، وسلك حَرَّة بني حارثة ، ومر بين الحوائط ، وأبو خيثمة من بني حارثة يدل به ، حتى نزل الشعب من أُحُد مستنداً إلى الجبل ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم ، فلما أصبح يوم السبت تعبيّ للقتال وهو في سبعمائة . فيهم خمسون فارساً وخمسون رامياً وأمّر على الرماة عبد الله بن جيبر . وأمَرَه وأصحابه أن يلزموا مراكزهم ، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تخطف العسكر . وكانوا خلف الجيش . وأمَرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم . وظاهَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يومئذ ، وأعطى اللواءَ مصعبَ بن عمير ، وجعل على إحدى المجنّبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو . واستعرض الشباب يومئذ . فردّ من استصغره عن القتال . منهم عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد ابن ظهير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقاً . منهم سمرة بن جندب ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة . فقيل : أجاز من أجازه ، لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ، وردّ من رد لصغره عن سنّ البلوغ ، وقالت طائفة : إنما أجاز من أجاز لإطاقته ، ورد من رد لعدم إطاقته ، ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك . قالوا : وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر : فلما رآني مطيقاً أجازني . وتبعّت قريش للقتال ، وهم في ثلاثة آلاف ، وفيهم مائتي فارس ، فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة ، وكان شجاعاً بطلا يختال عند الحرب ، وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق ، واسمه عبد بن عمرو بن صيفيّ ، وكان يسمى الراهب لترهبه وتنسكه في الجاهلية ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق . وكان رأس الأوس في الجاهلية . فلما جاء الإسلام شرق به ، وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلّبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله ، ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه . فكان أول من لقى من المسلمين . فنادى قومه وتعرف إليهم . قالوا : لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق ! فقاتل المسلمين قتلا شديدا وأبلى يومئذ حمزة وطلحة وشيبة وأبو دجانة والنضر بن أنس بلاء شديداً ، وأصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين ، واشتد القتال ، وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار ، فانهزمت أعداء الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم . فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه ، وقالوا : يا قوم ! الغنيمة ! الغنيمة ! فذكّرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يسمعوا ، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرَهم منهم إلا نحوُ العشرة ، فكرَّ المشركون وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم وهم ينتهبون ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووصل العدوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل ، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، وهشمت البيضة في رأسه ، يقال : إن الذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص وعمرو بن قميئة الليثيّ . وشد حنظلةُ الغسيلُ على أبي سفيان ليقتله ، فاعترضه شداد بن الأسود الليثيّ ، من شعوب ، فقتله . وكان جنباً . فأخبر سول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة غسلته . وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط من بعض حفر هناك ، فأخذ علي بيده ، واحتضنه طلحة حتى قام ، ومص الدمَ من جرحه مالكُ بن سنان الخدريّ ، والد أبي سعيد ، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم ، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح . فندرت ثنيتاه فصار أهتم . ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . وكرَّ دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم ، وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن ، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون . وأبو دجانة يلي النبيّ صلى الله عليه وسلم بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان . فرجع وهي على وجنته ، فردها عليه السلام بيده فصحّت . وكانت أحسن عينيه . وانتهى النضر بن أنس الى جماعة من الصحابة وقد دهشوا ، وقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : فما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل الناس وقاتل حتى قتل ، ووجد به سبعون ضربة . وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله . فعرج منها . وقتل حمزة عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم . ونادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، لأن عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمير ، يظن أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم . ووهن المسلمون لصريخ الشيطان . ثم إن كعب بن مالك الشاعر ، من بني سلمة ، عَرَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنادى بأعلى صوته يبشر الناس . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : " أنصت " . فاجتمع عليه المسلمون ونهضوا معه نحو الشعب ، وأدركه أبيّ بن خلف في الشعب ، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة وطعنه بها في عنقه ، فكرّ أُبيّ منهزماً . وقال له المشركون : ما بك من بأس . فقال : والله ! لو بصق عليّ لقتلني ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل . فمات عدوّ الله بسَرَف ، مرجعهم إلى مكة . ثم جاء عليٌّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض . فاستوى على صخرة من الجبل . وحانت الصلاة فصلى بهم قعوداً . وغفر الله للمنهزمين من المسلمين . ونزل : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ … } [ آل عمران : 155 ] الآية واستشهد نحو من سبعين . معظمهم من الأنصار . وقتل من المشركين اثنان وعشرون . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة . ويقال : إنه قال لعليّ : " لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا " . هذا ملخص هذه القصة : وقد ساقها بأطول من هذا أهل السير . وفيما ذكر كفاية . وأما ما اشتملت عليه من الأحكام والفقه والحكم والغايات المحمودة ، فقد تكفل بيانها الإمام ابن القيّم في زاد المعاد فارجع إليه . تنبيه فسر أكثر العلماء { غَدَوْتَ } بأصلها ، وهو الخروج غدوة أي : بكرة . ثم استشلكوا أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد بعد صلاة الجمعة كما اتفقت عليه كلمة أهل السير ، فكيف المطابقة ؟ . فمنهم من أجاب : بأن المراد غدوة السبت ، وأنه كان في صباحه التبوؤ للمقاعد إلا أنه لا يساعده من أهلك لأنه لم يكن وقتئذ أهله معه . ومنهم من قال : المراد غدوة الجمعة أي : اذكر إذ غدوت من أهلك صبيحة الجمعة إلى أصحابك في مسجدك تستشيرهم في أمر المشركين ، ثم قال : وبني من غدوت حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه ، فقال تبوئ المؤمنين أي : صبيحة يوم السبت . وكان يخطر لي أن الأقرب جعل الغدوّ بمعنى الخروج غير مقيد بالبكرة ، وكثيراً ما يستعمل كذلك . ثم رأيت في فتح البيان ما استظهرته فحمدت الله على الموافقة ونصه : وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة ، لأنه قد يعبر بالغدوة والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما . كما يقال : أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى - انتهى . قال البقاعيّ : ولما كان رجوع عبد الله بن أبيّ المنافق ، كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة ، من الأدلة على أن المنافقين ، فضلاً عن المصارحين بالمصارمة ، متصفون بإخبار الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء ، مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل - كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فسادٍ ، في غاية المناسبة . ولذلك افتتحها سبحانه بقوله مبدلاً من إذ غدوت دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا يألونهم خبالاً .