Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 140-140)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } بالفتح والضم قراءتان ، وهما لغتان ، كالضَّعف والضُّعف ، أي : إن أصابكم يوم أُحُد جراح { فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } أي : يوم بدر ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى ، لأنكم موعودون بالنصر دونهم ، أي : فقد استويتم في الألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] . فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أُصبتم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته . وقيل : كلا المسَّيْن كان يوم أُحُد ، فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ } أي : أيام هذه الحياة الدنيا { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } أي : نصرفها بينهم ، نذيل تارة لهؤلاء ، وتارة لهؤلاء . فهي عرض حاضر ، يقسمها بين أوليائه وأعدائه . بخلاف الآخرة ، فإن عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا . قال ابن القيم قدس سره ( في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ) : ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يُدَالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة . فإنهم لو انتصروا دائماً دخل معهم المسلمون وغيرهم ولم يميز الصادق من غيره . ولو انتُصِرَ عليهم دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة . فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة - انتهى . وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } قال ابن القيم : حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم الغيبيّ لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً في الحس . لطيفة في الآية وجهان : أحدهما : أن يكون المعلل محذوفاً معناه : وليعلم … الخ فعلنا ذلك . الثاني : أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليه وليبصِّرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه - أفاده الزمخشريّ . تنبيه في هذه الآية بحث مشهور ، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ … } [ آل عمران : 142 ] الخ . وقوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 3 ] وقوله : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ … } [ الكهف : 12 ] إلخ وقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] . وقوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ } [ البقرة : 143 ] . قال الرازيّ : وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها . ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه ، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة : منها : أن هذا من باب التمثيل . فالتقدير في هذه الآية : ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم . ومنها : أن العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي لميز الثابتين على الإيمان من غيرهم . ومنها : أن العلم على حقيقته . إلا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه واقع موجود بالفعل ، أي : ليعلم الثابت واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد ، وهذا ما اعتمده ابن القيّم كما نقلناه أولا . ومنها : أن الكلام على حذف مضاف . أي : ليعلم أولياء الله ، فأضاف إلى نفسه تفخيماً - والله أعلم . ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي : وليكرم ناساً منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادته للحق ، واستماتة دونه وإعلاء لكلمته ، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده ، وقد أعدّ لهم أعلى المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة . وفي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب ، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى وقوله : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ } قال ابن القيم : تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أُحُد فلم يشهدوه ، ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم ، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه - انتهى . فالتعريض بالمنافقين ، ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم ، بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين . ثم ذكر حكمة أخرى فيما أصابهم ذلك اليوم بقوله : { وَلِيُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ … } .