Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 154-154)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً } أي : أمناً . والأمنة بتحريك الميم مصدر , يقال : أمن أمناً وأماناًَ وأمَناً وأمنَة محركتين وفي حديث نزول عيسى عليه السلام , وتقع الأمنَة في الأرض , أي : الأمن . ومثله من المصادر العَظَمة والغَلَبة , وهو منصوب على المفعولية . وقوله تعالى : { نُّعَاساً } بدل من { أَمَنَةً } وقيل : هو المفعول , و { أَمَنَةً } حال أو مفعول له { يَغْشَىٰ طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } وهم المخلصون , أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق , الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله . والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان , كما قال في سورة الأنفال : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ … } [ الأنفال : 11 ] الآية وروى البخاريّ في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافّنا يوم أحد ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه . ورواه الترمذيّ والنسائيّ والحاكم . ولفظ الترمذيّ : قال أبو طلحة : رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر ، وما منهم ويومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس . فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ ٱلْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } . وقد ساق الرازيّ لذلك النعاس فوائد : منها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدلّ الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم . وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى - انتهى . ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه النعاس فهو ممن أهمته نفسه ، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه ، بقوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } أي : ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها ، فلم يَغْشَهُم النعاس ، من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } أي : غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه { ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ } كما قال تعالى في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً … } [ الفتح : 12 ] الآية . وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وأن الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة ، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة . قال الإمام ابن القيّم في زاد المعاد : وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وأنه يسلمه للقتل . وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ، ولا حكمة له فيه . ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله ، ويظهره على الدين كله . وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح ، حيث يقول : { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ الفتح : 6 ] . وإنما كان هذا ظن السوء ، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل ، وظن غير الحق ، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وذاته المبرأة من كل سوء . بخلاف ما يليق بحكمته وحمده ، وتفرده بالربوبية والإلهية ، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه ، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ، ولجنده بأنهم هم الغالبون . فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد جنده ، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق ، إدالةً مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً - فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته . فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك ، ويأبى أن يذل حزبه وجنده ، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به ، العادلين به - فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ، ولا عرف صفاته وكماله . وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ، ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته ، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة ، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له ، فما قدرها سدى ، ولا أنشأها عبثاً ، ولا خلقها باطلاً : { ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ ص : 27 ] . وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ، ظن السوء ، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم . ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته . فمن قنط من رحمته ، وأيس من روحه ، فقد ظن به ظن السوء . ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ، ويسوي بينهم وبين أعدائه ، فقد ظن به ظن السوء ، ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ، ولا يرسل إليهم رسله ، ولا ينزل عليهم كتبه ، بل يتركهم هملاً كالأنعام ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى فيها المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين ، فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد ، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه ولا اختيار له ، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله ، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به ، أو ظن أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ، يضلون بها عباده ، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته ، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين ، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين ، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق ، وإلا فالعقل لا يقتضي بقبح أحدهما وحسن الآخر - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل ، وترك الحق لم يخبر به ، وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة ، وأشار إليه إشارات ملغزة ، لم يصرح به ، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل ، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويله ، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة ، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي ، أشبه منها بالكشف والبيان ، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم ، لا على كتابه ، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم ، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل ، فلم يفعل ، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان - فقد ظن به ظن السوء . فإنه إن قال إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه ، فقد ظن بقدرته العجز . وإن قال إنه قادر ولم يبين ، وعدل عن البيان ، وعن التصريح بالحق ، إلى ما يوهم ، بل يوقع في الباطل المحال ، والاعتقاد الفاسد - فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء . وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله . وإن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم . وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره والتشبيه والتمثيل والضلال ، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق ، وهذا من أسوأ الظن بالله . فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء . ومن الظانين به غير الحق ، ظن الجاهلية ، ومن ظن به يكون في ملكه ما يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد ، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل ، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه ، بائناً من خلقه ، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل كما أنه أعلى ، ومن قال سبحان ربي الأسفل ، كمن قال سبحان ربي الأعلى - فقد ظن به أقبح الظن . ثم قال : وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ، ووصفته به رسله - فقد ظن به ظن السوء . ومن ظن أن أحداً يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوسلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيدعونهم ويخافونهم ، ويرجونهم - فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه . ثم قال : ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه ، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء . وظن به خلاف ما هو أهله . ثم قال : ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه ، ثم اتخذ من دونه وليّاً ، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً ، حيّاً أو ميتاً ، يرجوا بذلك أن ينفعه عند ربه ، ويخلصه من عذابه - فقد ظن به ظن السوء . وذلك زيادة في بعده من الله ، وفي عذابه ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطاً مستقراً دائماً في حياته وفي مماته ، وابتلاه بهم لا يفارقونه ، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته ، وظلموا أهل بيته ، وسلبوهم حقهم ، وأذلوهم ، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائماً من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق ، وهو يرى قهرهم لهم ، وغصبهم إياهم حقهم ، وتبديلهم دين نبيهم وهو يقدر على نصر أوليائه ، وحزبه وجنده ، ولا ينصرهم ولا يديلهم ، بل يديل أعدائهم عليهم أبداً ، أو أنه لا يقدر على ذلك ، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته ، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه ، وسواء قالوا إنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر ، أو أنه غير قادر على ذلك . فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده ، وذلك من ظن السوء به . ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك ، غير محمود عندهم ، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك ، لكن رَفَوْا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه ، واستجاروا من الرمضاء بالنار ، فقالوا : لم يكن هذا بمشيئة الله ، ولا قدرة على دفعه ونصر أوليائه ، فإنه لا يقدر على أفعال عباده ، ولا يدخل تحت قدرته ، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم . وكل مبطر وكافر ومبتدع ومقهور مستذل ، فهو يظن بربه هذا الظنَ ، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلوّ من خصومه . فأكثر الخلق ، بل كلهم ، إلا من شاء الله ، يظنون بالله غير الحق وظن السوء . فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ، ولا يتجاسر على التصريح به . ومن فتش نفسه ، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها ، رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شرارُه عما في زناده ، ولو فتشت من فتشته ، لرأيت عنده تعتباً على القدر ، وملامة له ، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك : @ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً @@ فليعتن اللبيب الناصح نفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله ويستغفره كل وقت ، من ظنه بربه ظن السوء . وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ، ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين ، الغني الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزّه عن كل سوء ، في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه . فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه ، وصفاته كذلك . وأفعاله كذلك ، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل . وأسماؤه كلها حسنى . والمقصود ما ساقنا إلى هذا الكلام من قوله تعالى : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ظَنَّ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ } . ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل بقوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من أمر التدبير والرأي من شيء ، استفهام على سبيل الإنكار . أي : ما لنا أمر يطاع . ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [ آل عمران : 168 ] . وذلك أن عبد الله بن أبيّ لما شاوره النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة ، أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ، ثم إن الصحابة ألحوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، كما تقدم . ولما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه ، وأُخبر بكثرة القتلى من بني الخزرج ، قال : هل لنا من الأمر شيء ؟ يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقبل قولي حين أمرته بأن يبقى في المدينة ولا يخرج منها { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } أي : التدبير كله لله ، فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مردّ له . قال الإمام ابن القيّم قدس الله روحه : ليس مقصودهم بقولهم : { هَل لَّنَا مِنَ ٱلأَمْرِ مِن شَيْءٍ } . وقولهم : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا } . إثبات القدر ، ورد الأمر كله إلى الله . ولو كان ذلك مقصودهم بالكلمة الأولى لما ذموا عليه ، لما حسن الرد عليهم بقوله : { إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } . ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية . ولهذا قال غير واحد من المفسرين : إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر ، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعاً لهم ، ويسمعون منهم ، لما أصابهم القتل ، ويكون النصر والظفر لهم . فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل ، الذي هو ظن الجاهلية ، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل ، الذين يزعمون ، بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه ، أنهم كانوا قادرين على دفعه ، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء ، فأكذبهم الله بقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلأَمْرَ كُلَّهُ للَّهِ } . فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره ، وجرى به علمه وكتابه السابق ، وما شاء الله كان ولا بد ، شاء الناس أم أبوا . وما لم يشأ لم يكن ، شاء الناس أو لم يشاؤوه . وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل ، فبأمره الكونيّ الذي لا سبيل إلى دفعه ، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن ، وأنكم لو كنتم في بيوتكم ، وقد كتب القتل على بعضكم ، لخرج الذين كتب عليهم القتل من بيوتهم إلى مضاجعهم ولا بد . سواء أن يكون لهم من الأمر شيء أو لم يكن . وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة ، الذين يجوّزون أن يقع ما لا يشاؤه الله ، وأن يشاء ما لا يقع - انتهى . { يُخْفُونَ فِيۤ أَنْفُسِهِم } أي : يضمرون فيها ، أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية { مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } لكونه لا يرضاه الله تعالى . ثم بين ذلك بعد إجماله فقال : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ } أي : المسموع { شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا } أي : ما غلبنا ، أو ما قتل من قتل منا ، لأنا كنا نمكث في المدينة ، ولا نخرج إلى العدوّ . ولما أخبر تعالى بما أخفوه جهلاً منهم ، ظناً أن الحذر يغني من القدر ، أمره تعالى بالرد عليهم بقوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ } أي : أجمع رأيكم على أن لا تبرحوا من منازلكم أنتم والمقتولون { لَبَرَزَ } أي : خرج { ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ } في اللوح المحفوظ { إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } أي : التي قدر الله قتلهم فيها ، ولم يثبتوا في ديارهم ، لأنه يوقع في قلوبهم الخروج إمضاء لقدره وحكمه المحتوم الذي لا يقع خلافه ولا يردّ ، لقوله : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [ الحديد : 22 ] . وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة ، حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل ، بل عين مكانه أيضاً . وفي التعبير بـ { مَضَاجِعِهِمْ } من إجلالهم وتكريمهم ما لا يخفى على صاحب الذوق السليم . { وَلِيَبْتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } أي : ليعاملكم معاملة الممتحن ، ليستخرج ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ، ليجعله حجة عليكم ، فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيماناً وتسليماً ، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه ؛ وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية ، للإيذان بكثرتها . كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة { وَلِيَبْتَلِيَ … } الخ ، أو لفعل مقدر بعدها ، أي : وللابتلاء المذكور فعل ما فعل ، لا لعدم العناية بأمر المؤمنين . وجعلها عللاً لـِ { لَبَرَزَ } يأباه الذوق السليم . فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول ، لا بيان حكمة البروز المفروض - أفاده أبو السعود . ثم ذكر تعالى حكمة أخرى بقوله : { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي : يخلصه وينقيه ويهذبه ، فإن القلوب يخالطها بغلبة الطبائع ، وميل النفوس ، وحكم العادة ، وتزيين الشيطان ، واستيلاء الغفلة - ما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبرّ والتقوى . فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخالطة ، ولم تتمحص منه . فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقضي لها من المحن والبلاء ، ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء . إن لم يتداركه طبيبه بإزالته وتنقيته من جسده ، وإلا خيف عليه منه الفساد والهلاك . فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكسرة والهزيمة ، وقتل من قتل منهم ، تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم وظفرهم بعدوهم . فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا - أفاده ابن القيّم . وقال القاشانيّ : البلاء سوط من سياط الله ، يسوق به عباده إليهم بتصفيتهم عن صفات نفوسهم ، وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم من الخلق إلى الحق . ولهذا كان متوكَّلا بالأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لفضله : " ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت " كأنه قال : ما صفى نبيّ مثل ما صفيت . ولقد أحسن من قال : @ لله در النائبات فإنها صدأ اللئام وصيقل الأحرار @@ إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } أي : الضمائر الملازمة لها ، وعد ووعيد . ثم أخبر تعالى عن تولى من تولي من المؤمنين الصادقين في ذلك اليوم ، وأنه بسبب كسبهم بقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ … } .