Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 156-156)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المنافقون القائلون : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا } [ آل عمران : 154 ] . { وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أي : سافروا فيها للتجارة فأصيبوا بغرق أو قتل { أَوْ كَانُواْ } أي : إخوانهم { غُزًّى } جمع غاز فأصيبوا باصطدام أو قتل { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } أي : مقيمين { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } قال أبو السعود : ليس المقصود بالنهي عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول ، بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه . أقول : بل الآية تفيد الأمرين : أعني : حفظ الاعتقاد المقصود أولاً وبالذات ، وحفظ المنطق مما يوقع في إضلال الناس ، ويخل بالمقام الإلهي ، كما بينته السنة ، وسنذكره في التنبيه الآتي . وقوله : { لِيَجْعَلَ ٱللَّهُ ذٰلِكَ } أي : القول : { حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } متعلق بقالوا على أن اللام لام العاقبة ، مثلها في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] أي : قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم . والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدةٍ ما , على ذلك أصلاً . { وَٱللَّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } رد لقولهم الباطل ، إثر بيان غائلته . أي : هو المؤثر في الحياة والممات وحده ، من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك ، فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامها لموارد الحتوف ، ويميت المقيم مع حيازته لأسباب السلامة . وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت العير ، فلا نامت أعين الجبناء ! { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديد للمؤمنين في مماثلة من ذكر . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية أنه لا يجوز التشبه بالكفار . قال الحاكم : وقد يكون منه ما يكون كفراً . وفيها أيضاً دلالة على أنه لا يسقط وجوب الجهاد بخشية القتل . تنبيه أشعرت الآية بوجوب حفظ المنطق مما يشاكل ألفاظ المشركين من الكلمات المنافية للعقيدة الإسلامية كما ذكرنا . وقد عقد الإمام ابن القيّم في زاد المعاد فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم في حفظ النطق واختيار الألفاظ قال : كان صلى الله عليه وسلم يتخير في خطابه ، ويختار لأمته أحسن ألفاظ وأجملها وألطفها ، وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاء والغلظة والفحش . إلى أن قال : ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن قول القائل بعد فوات الأمر : لو أني فعلت كذا وكذا . وقال : " إنها تفتح عمل الشيطان " وأرشده إلى ما هو أنفع له من هذه الكلمة ، وهو أن يقول : قدر الله ، وما شاء فعل . وذلك لأن قوله : لو كنت فعلت كذا وكذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه ، كلام لا يجدي عليه فائدة البتة ، فإنه غير مستقبل لما استدبر من أمره ، وغير مستقيل عثرته بـ ( لو ) . وفي ضمن ( لو ) ادعاء أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه ، لكان غير ما قضاه الله وقدره وشاءه ، فإنّ ما وقع مما يتمنى خلافه ، إنما وقع بقضاء الله وقدره ومشيئته ، فإذا قال : لو أني فعلت كذا لكان خلاف ما وقع ، فهو محال ، إذ خلاف المقدّر المقضيّ محال . فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً . وإن سلم من التكذيب بالقدر لم يسلم من معارضته بقوله : لو أني فعلت لدفعت ما قدر عليّ . فإن قيل : ليس في هذا رد للقدر ولا جحد له ، إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضاً من القدر ، فهو يقول : لو وفقت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر ، فإن القدر يدفع بعضه ببعض ، كما يدفع قدر المرض بالدواء ، وقدر الذنوب بالتوبة ، وقدر العدو بالجهاد فكلاهما من القدر . قيل : هذا حق ، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه . وأما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قوله : لو كنت فعلته ، بل وظيفته في هذه الحالة أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف ، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه ، فإنه عجز محض ، والله يلوم على العجز ، ويحب الكيس ويأمر به . والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده ، فهذه تفتح عمل الخير والأمر ، وأما العجز فإنه يفتح عمل الشيطان ، فإنه إذا عجز عما ينفعه وصار إلى الأمانيّ الباطلة بقوله : لو كان كذا وكذا ، ولو فعلت كذا ، يفتح عمل الشيطان ، فإن بابه العجز والكسل . ولهذا استعاذ النبيّ صلى الله عليه وسلم منهما . وهو مفتاح كل شر ، ويصدر عنهما الهم والحزن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال . فمصدرها كلها عن العجز والكسل . وعنوانها لو ، فلذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فإن لو تفتح عمل الشيطان " ، فالمتمني من أعجز الناس وأفلسهم ، فإن المنى رأس أموال المفاليس ، والعجز مفتاح كل شر ، وأصل المعاصي كلها العجز ، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات ، وعن الأسباب التي تعرضه عن المعاصي ، ويحول بينها وبينه ، فيقع في المعاصي . فجمع في هذا الحديث الشريف ، في استعاذته صلى الله عليه وسلم أصولَ الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره ، . وهو مشتمل على ثمان خصال ، كل خصلتين منها قرينتان فقال : " أعوذ بك من الهم والحزن " ، وهما قرينان ، فإن المكروه الوارد على القلب ينقسم باعتبار سببه إلى قسمين : فإنه إما أن يكون سببه أمراً ماضياً ، فهو يحدث الحزن ، وإما أن يكون توقع أمر مستقبل ، فهو يحدث الهم ، وكلاهما من العجز ، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن ، بل بالرضاء والحمد والصبر والإيمان بالقدر ، وقول العبد : قدر الله وما شاء فعل . وما يستقبل لا يدفع أيضاً بالهم . بل إما أن يكون له حيلة في دفعه فلا يعجز عنه ، وإما ألا تكون له حيلة في دفعه ، فلا يجزع منه ، ويلبس له لباسه ، ويأخذ له عدته ، ويتأهب له أهبته اللائقة ، ويستجن بجُنة حصينة من التوحيد والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى ، والاستسلام له ، والرضا به رباً في كل شيء ، ولا يرضى به رباً فيما يحبّ دون ما يكره ، فإذا كان هكذا لم يرض به رباً على الإطلاق ، فلا يرضاه الرب له عبداً على الإطلاق . فالهم والحزن لا ينفعان العبد ألبتة ؛ بل مضرتهما أكثر من منفعتهما ، فإنهما يضعفان العزم ، ويوهنان القلب ، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ، ويقطعان عليه طريق السير ، أو ينكسانه إلى وراء أو يعوقانه ويقفانه أو يحجبانه عن العلم الذي كلما رآه شمر إليه ، وجدّ في سيره ، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر ، بل إن عاقة الهم والحزن عن شهواته وإرادته التي تضره في معاشه ومعاده ، أنفع به من هذا الوجه ، وهذا من حكمة العزيز الحكيم ، أن سلط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه ، الفارغة من محبته وخوفه ورجائه والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، والأنس به ، والفرار إليه ، والانقطاع إليه ، ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان ، والآلام القلبية ، عن كثير من معاصيها وشهواتها المردية . وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار . وإن أريد بها الخير ، كان حظها من سجن الجحيم في معادها ، ولا تزال في هذا السجن ، حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ، والأنس به ، وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه ، بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره ، هو المستولي على القلب الغالب عليه ، الذي متى فقده ، فقد قُوتَهُ ، الذي لا قوام له إلا به ، ولا بقاء له بدونه ، ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلا م التي هي أعظم أمراضه ، وأفسدها له إلا بذلك ، ولا بلاغ إلا بالله وحده ، فإنه لا يوصل إليه إلا هو ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يصرف السيئات إلا هو ، ولا يدل عليه إلا هو ، وإذا أراد عبده لأمر هيأه له ، فمنه الإيجاد ومنه الإعداد ومنه الإمداد ، وإذا أقامه في مقام ، أيّ مقام كان ، فبحمده أقامه فيه ، وحكمته إقامته فيه ، ولا يليق به غيره ، ولا يصلح له سواه ، ولا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، ولا يمنع عبده حقاً هو للعبد ، فيكون بمنعه ظالماً ، بل مَنَعَهُ ليتوسل إليه بمحابه ليعطيه ، وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ، ويتملقه ويعطى فقره إليه حقه ، بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه ، على تعاقب الأنفاس ، وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده ، فلم يمنع عبده ما العبد محتاج إليه ، بخلاً منه ولا نقصان من خزائنه ولا استئثاراً عليه بما هو حق للعبد . بل مَنَعَهُ ليردّه إليه وليعزه بالتذلل له ، وليغنيه بالافتقار إليه ، وليجبره بالانكسار بين يديه وليذيقه بمرارة المنع ، حلاوةَ الخضوع ولذة الفقر . وليلبسه خلعة العبودية ، ويوليه بعزله أشرف الولايات ، وليشهده حكمته في قدرته ، ورحمته في عزته ، وبره ولطفه في قهره . وأنّ منعه عطاء ، وعزله تولية ، وعقوبته تأديبٌ ، وامتحانه محبة ، وعطية وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه إليه . وبالجملة فلا يليق بالعبد غير ما أقيم فيه . وحكمته وحمده أقاماه في مقامه الذي لا يليق به سواه ولا يحسن أن يتخطاه ، انتهى . ثم أشار تعالى إلى أن الموت في سبيل الله ليس مما يوجب الحسرة حتى يحذر منه . بل هو مما يوجب الفرح والسرور فقال : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ … } .