Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 191-191)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } أي : فلا يخلو حال من أحوالهم عن ذكر الله المفيد صفاء الظاهر المؤثر في تصفية الباطن . فالمراد تعميم الذكر للأوقات ، وعدم الغفلة عنه تعالى . وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ، ليس لتخصيص الذكر بها ، بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالباً { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي في إنشائهما بهذه الأجرام العظام ، وما فيهما من عجائب المصنوعات ، وغرائب المبتدعات ، ليدّلهم ذلك على كمال قدرة الصانع سبحانه وتعالى ، فيعلموا أن لهما خالقاً قادراً مدبراً حكيماً ، لأن عظم آثاره وأفعاله تدل على عظم خالقها تعالى . كما قيل : @ وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد @@ روى ابن أبي الدنيا في ( كتاب التوكل والاعتبار ) عن الصوفيّ الجليل الشيخ أبي سليمان الداراني قدس الله سره أنه قال : إني لأخرج من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة ، ولي فيه عبرة . وإنما خصص التفكر بالخلق ، للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته . خرّج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن سلام : لا تفكروا في الله ، ولكن تفكروا فيما خلق ، وله شواهد كثيرة . قال الرازيّ : دلائل التوحيد محصورة في قسمين : دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 57 ] . ولما كان الأمر كذلك ، لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السماوات والأرض ، لأن دلالتها أعجب ، وشواهدها أعظم ، وكيف لا نقول ذلك ، ولو أن الإنسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقاً واحداً ًممتداً في وسطها ، ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ، ثم يتشعب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر ، حتى تصير في الدقة بحيث لا يرها البصر ، وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكماً بالغة ، وأسراراً عجيبة ، وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ، ثم إن ذلك الغذاء يجرى في تلك العروق ، حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة ، جزءٌ من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم . ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها ، لعجز عنه . فإذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السماوات ، مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم . وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان . عرف أن تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء ، كالعدم . فإذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل له البتة إلى الإطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السماوات والأرض ، وإذا عرف بهذا البرهان النيّر قصور عقله وفهمه عن الإحاطة بهذا المقام ، لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين . بل يسلم أن كل ما خلقه ففيه حكم بالغة ، وأسرار عظيمة ، وإن كان لا سبيل إلى معرفتها ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } على إرادة القول ، بمعنى يتفكرون قائلين ذلك . وكلمة { هَذا } متضمنة لضرب من التعظيم ، أي : ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثاً ، عارياً عن الحكمة ، خالياً عن المصلحة ، بل منتظماً لحكم جليلة ، ومصالح عظيمة . من جملتها أن يكون دلالة على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك ، وأن يكون مداراً لمعايش العباد ، ومناراً يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد . لطيفة قال أبو البقاء : { بَاطِلاً } مفعول من أجله . والباطل ، هنا ، فاعل بمعنى المصدر ، مثل العاقبة والعافية . والمعنى : ما خلقتهما عبثاً . ويجوز أن يكون حالاً . تقديره : ما خلقت هذا خالياً عن حكمة . ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، أي : خلقاً باطلاً - انتهى . وقوله : { سُبْحَانَكَ } أي : تنزيهاً لك من العبث ، وأن تخلق شيئاً بغير حكمة { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } قال السيوطيّ : فيه استحباب هذا الذكر عند النظر إلى السماء . ذكره النوويّ في الأذكار . ا . هـ . وفيه تعليم العباد كيفية الدعاء ، وهو تقديم الثناء على الله تعالى أولاً ، كما دل عليه قوله : { سُبْحَانَكَ } ثم بعد الثناء يأتي الدعاء ، كما دل عليه { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } . وعن فَضالة بن عبيد رضي الله عنه قال : " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعوا في صلاته ، لم يمجد الله تعالى ، ولم يصل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجل هذا " ، ثم دعاه فقال له أو لغيره : " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه ، والثناء عليه ، ثم يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم يدعو بعد بما شاء " رواه أبو داود والترمذيّ وقال : حديث صحيح . واعلم أنه لما حكى تعالى عن هؤلاء العباد المخلصين أنًّ ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى ، وأبدانهم في طاعة الله ، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ، ثم أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ، بقولهم : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ … } .