Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 7-7)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } واضحات الدلالة { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ } أي : أصله المعتمد عليه في الأحكام { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجهاً . وجعله كله محكماً في قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [ هود : 1 ] بمعنى : أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني . ومتشابهاً في قوله : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزمر : 23 ] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ، ويصدق بعضه بعضاً { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي : ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ } أي : طلب الإيقاع في الشبهات واللبس { وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } وحده { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } أي : الثابتون المتمكنون مبتدأ ، خبره { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } أي : بالمتشابه على ما أراد الله تعالى { كُلٌّ } من المحكم والمتشابه { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي : العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة ، وهو تذييل سيق منه تعالى مدحاً للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر . تنبيه للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة . وأبدعُ ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان . يقول في خلالها : المحكم في قرآن ، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان . ومن الناس من يجعله مقابلاً لما نسخه الله مطلقاً ، حتى يقول هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكماً ، وإن كان الله أنزله أوَّلاً إتباعاً للظاهر من قوله : { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ } [ الحج : 52 ] . فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها . وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل . فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان . فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي : فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحيّ . أو يقال - وهو أشبه : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخاً ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح ، كتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف . وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلِّغ ، وقد يكون في مسمع المبلِّغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] . ومعلوم أن من سمع ، سمعَ النص الذي قد رفع حُكْمُهُ ، أو دلالة له ، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رُفِعَ الحكم ، وبَانَ المراد . وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ . بهذا الاعتبار . والله أعلم . وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا . فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه ( لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ) ، وإنما قال { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع ، فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة . ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ } [ ص : 29 ] وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات . وما لا يعقل له معنى لا يتدبر . وقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ } [ النساء : 82 ، محمد 24 ] ولم يستثن شيئاً منه نهى عن تدبره . واللهُ ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه . يبيّن ذلك أن التأويل ، قد روي أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم كحييّ بن أحطب وغيره مَن طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاماً ، لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر . وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم في وفد نجران مَنْ تأول أنا ونحن على أن الآلهة ثلاثة . لأن هذا الضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله . فأولئك تأولوا في اليوم الآخر . وهؤلاء . تأولوا في الله ومعلوم أن ( إنَا ونحن ) من المتشابه . فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه . الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى . فصار هذا متشابهاً لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه . وبعض المتواطئ أيضاً من المتشابه ، ويسميها أهل التفسير : الوجوه والنظائر وصنفوا كتب الوجوه والنظائر . فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعاً في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله . والذين في قلوبهم زيغ يَدَعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ البقرة : 163 ] { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي } [ طه : 14 ] { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ } [ المؤمنون : 91 ] . { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } [ الفرقان : 2 ] . { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 3 - 4 ] . ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه . وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها . وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء في الأمر ، وإخبار . فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : إن السنة هي تأويل الأمر . قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك الله وبحمدك . اللهم اغفر لي " يتأول القرآن ، تعني قوله : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } [ النصر : 3 ] . وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع . ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع . وهذا معناه . قال الله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ } [ الأعراف : 52 - 53 ] فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : { هَلْ يَنظُرُونَ } [ الأعراف : 53 ] ، أي : ينتظرون { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ … } [ الأعراف : 53 ] إلى آخر الآية . وإما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها . كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك . فحينئذ يقولون : { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [ الأعراف : 53 ] . وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله . فإن الله يقول : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] . ويقول : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمراً ولبناً وماء وحريراً وذهباً وفضة وغير ذلك ، ونحن نعلم قطعاً أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع التشابه . كما في قوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَٰبِهاً } [ البقرة : 25 ] على أحد القولين أي : يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله . فأشبه اسمُ تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائقُ الحقائقَ من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم . فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح . ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحانيّ ، إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملّتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحانيّ والسماع الطيب والروائح العطرة . كلٌّ ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضاً متبعاً للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } ، فإن تلك الحقائق قال الله فيها : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] ، لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل . وقوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } : إما أن يكون الضمير عائداً على الكتاب أو على المتشابه . فإن كان عائداً على الكتاب لقوله : منه . ومنه { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ، فهذا يصح ، فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله . وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 52 - 53 ] . فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتاً وقدراً ونوعاً وحقيقة إلا الله . وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا ، وكذلك قوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] . وإذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 187 ] - إلى قوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ } [ الأعراف : 187 ] . وكذلك قوله : { يَسْأَلُكَ ٱلنَّاسُ عَنِ ٱلسَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } [ الأحزاب : 63 ] . فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله . وهذا واضح بيّن ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها . فهذا هذا . وإن كان الضمير عائداً إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي . ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه والإيمان بمتشابه . لأن المقصود في الخبر الإيمان . وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه . بخلاف الأمر والنهي فإنه متميز غير مشتبه بغيره ، فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع ، وأمور نتركها لا بد أن نتصورها . ومما جاء من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] والكتابة عائدة على القرآن ، أو على ما لم يحيطوا بعلمه ، وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ * وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِٱلْمُفْسِدِينَ } [ يونس : 37 - 40 ] . فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله . وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفيّ كقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله . كما تحداهم وطالبهم لما قال : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] ، فهذا تعجيز لجميع المخلوقين . قال تعالى : { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ يونس : 37 ] ، أي : مصدق الذي بين يديه ، وتَفْصِيلَ الكِتَابِ ، أي : مفصل الكتاب ، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب . والكتاب اسم جنس . ولما تحدى القائلين : افْتَراه ، ودل على أنهم هم المفترون ، قال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] . ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله . فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله ، فإن الإحاطة بعمله معرفة معاني الكلام على التمام ، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به . وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به . فعمرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن . ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم . إن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابهه ، وإن لم يعلم تأويله . ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : 45 - 46 ] . فقد أخبر فقد أخبر ، ذماً للمشركين ، أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : أَن يَفْقَهُوهُ . يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه . ولهذا قال الحسن البصريّ : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها . وما استثنى من ذلك لا متشابهاً ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : لا يَعْلَمُ تَأْوِلَهُ إلا اللهُ ، يجيب مجاهداً عن كل آية في القرآن . وهذا هو الذي جعل مجاهداً ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عن قوله { وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ } فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل . لأن مجاهداً تعلم من ابن عباس تفسير القرآن وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفيّ عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين . فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن . ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوريّ : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . وأما التأويل فشأن آخر : ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يُعْلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك . فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوّز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما يشاء . ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئاً ، خلافاً للحشوية . وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ؛ وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عن المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما يجري على أصله ، فقال : هذا عبث ، والعبث على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلاً ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح . ومثال الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم : أن مدعي التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، وكلام العرب ، علموا يقيناً أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن ، فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وإن كان يغلب عليهم السنة ، فقد يتأولون أيضاً مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه . والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضاً أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزاً وعيباً وقبيحاً أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطؤوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاماً وجدالاً ، ولكن بفرية على الله ، وقولٍ عليه ما لا يعلمونه ، وإلحادٍ في أسمائه وآياته . فهذا هذا . ومنشأ الشبهة : الاشتراك في لفظ التأويل . فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به . وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل ، والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، يترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم إلى غير ذلك من المقالات والتنازع . وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان : أحدهما : تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقارباً أو مترادفاً ، وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبريّ يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير . والمعنى الثاني : في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقاً هو نفس المراد بالكلام . فإن الكلام إن كان طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وإن كان خبراً أن تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح . ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهنيّ واللفظيّ والرسميّ . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة . فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف . الثالث : هو لغة القرآن التي نزل بها ، وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : { وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } [ يوسف : 6 ] . وقوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 - 37 ] وقول الملأ : { قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } [ يوسف : 44 ] . { وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [ يوسف : 45 ] . وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : { ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } [ يوسف : 99 ] . { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } [ يوسف : 100 ] . فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه ، كما قال يوسف : { هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] . والعالم بتأويلها الذي يخبر به ، كما قال يوسف : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } [ يوسف : 37 ] أي : في المنام { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } [ يوسف : 37 ] . أي : قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [ النساء : 59 ] . قالوا : أحسن عاقبة ومصيراً ، فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم { قَالَ هَـٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] إلى قوله : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 82 ] . فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها ، ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قولٍ ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوّله يؤوله تأويلاً ، مثل حوّل تحويلاً ، وعول تعويلاً . و ( أوّل يؤوّل ) تعدية ( آل يؤول أوْلاَ ) ، مثل حال يحول حولاً ، وقولهم : ( آل يؤول ) أي عاد إلى كذا ورجع إليه ، ومنه المآل ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فإنه وَأَل ، وهذا من أوَل ، والموئل المرجع ، قال تعالى : { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } [ الكهف : 58 ] . ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فإن آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى الأولى ، وفي القصص : { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ } [ القصص : 70 ] . ومن الناس من يقول فوعل ويقول ( أوّله ) إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل ، فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يؤول إليه ويبني عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من باب أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] . { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] { وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] . ومثل هذا أول هؤلاء ، فهذا الذي فضل عليهم في الأوّل ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ، كلهم يؤول إليه . فإن من تقدم من فعل . فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل إليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء ، والمبتدي خلاف العائد . لأنه إنما كان أولاً لما بعده ، فإنه يقال { أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام : 163 ] ، و { أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] ، فما فيه من معنى الرجوع والعود , هو للمضاف إليه لا للمضاف . وإذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف . لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلاً ومرجعا لغيره . لأنه كونه مفضلاً دل عليه أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع . إذ لا فضل في كون الشيء راجعاً إلى غيره . آيلاً إليه ، وإنما الفضل في كونه هو الذي يُرجع إليه ويُؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلاً ومرجعاً ، والتفضيل المطلقُ في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم . فتأويل الكلام ما أوّله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فإن التفعيل يجري على غير فعّل كقوله : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] ، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلاً ، والمصدر واقع موقع الصفة ، إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل . كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه ، أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويَؤُول ويُؤَوّل إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 67 ] . قال : حقيقة . فإن كان خبراً فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع ، وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذباً ، وإن كان طلباً فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع . وإلا لم يكن مقصوده موجوداً ولا حاصلاً ، ومتى كان الخبر وعداً أو وعيداً فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [ الأنعام : 65 ] . قال : إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد . فصل وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كلَّ واحد من القولين طوائفُ من أصحابنا وغيرهم ، فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين : الأول : من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه . ما الدليل على ذلك ؟ فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره ، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجميّ الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاماً لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تُمرّ كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردّوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في أحاديث الوعد . مثل : " من غشنا فليس منا " وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلاً ، بالعرف المتأخر . فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في كتاب الرد على الزنادقة الجهمية أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية ، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله . فهذا اتفاق من الأئمة على أنه يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له على مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته . ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلاً يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها . والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن تقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، و : { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، و : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } ، و : { ٱلْمُقْسِطِينَ } ، و : { ٱلْمُحْسِنِينَ } ، وأنه : يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، و : { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الزخرف : 55 ] . { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ } [ محمد : 28 ] . { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ } [ التوبة : 46 ] . { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] . { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] . { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] . { وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } [ الزخرف : 84 ] . { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [ طه : 46 ] . { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] . { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] . { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] . { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [ الرحمن : 27 ] . { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] . { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [ طه : 39 ] . إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جمع ما سمى الله ووصف به نفس أم في البعض ؟ فإن قلت هذا في الجميع كان هذا عناداً ظاهراً ، وجحداً لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ، بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . معنى . ونفهم من قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] معنى . ونفهم من قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } [ إبراهيم : 47 ] ، معنى . وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا . وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علماً محضاً من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } [ البقرة : 255 ] . يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم ، وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر . ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود . أم لا ؟ فإن قال : لا ، كان معطلاً محضاً . وما أعلم مسلماً يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث . بخلاف الذات . فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء ، والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع ، أما الأول : فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير عليّ عظيم كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته . وأما الثاني : فيقال لمن أثبت شيئاً ونفى آخر : لم نفيت ، مثلاً ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى أرادته ؟ فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وإن قال ( وهو حقيقة قوله ) : لم أُثْبِت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أَثْبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين . لأن الفعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم . والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضاً على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا . الثاني : يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ، ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل . الثالث : يقال له : إذا قال لك الجهميّ : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذوراً إن قال بقدمها ، ومحذوراً إن قال بحدوثها . وهنا اضطربت المعتزلة ، فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم ، ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم . مع تناقضهم . فصاروا حزبين : البغداديون : وهم أشد غلوّاً في البدعة في الصفات وفي القدر . نفوا حقيقة الإرادة . وقال الحافظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه . وقال الكعبيّ : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده . والبصريون : كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضاً . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعل مسفسطاً أو مقرمطاً ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي . ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثاً ولا تركيباً مقتضياً حاجة إلى غيره . ويعارضون أيضاً بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويُلْزَمُون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجودٍ من جنس ما نعهده ، أو بوجودٍ يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمي ووصف به نفسه ، كالقول في نفسه سبحانه وتعالى . ونكتة هذا الكلام : أن غالب من نفي وأثبت شيئاً مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضي وانتفاء المانع . وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضي ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتضٍ ولا مانع ، فيُبيَّن له أن المقتضي فيما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجب به الإثبات . فإن كان المقتضي هناك حقّاً ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضي من جنس درء هذا . وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجوداً على التقديرين لم ينج من محذروه بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فإنه إن كان حقّاً نفاهما ، وإن كان باطلاً لم ينف واحداً منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئاً . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئاً أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة , وإن لم يعرف فسادها على التفضيل , وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غيره مرة . فإن قال : مَنْ أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسّيّ . فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضاً أو تسميتها أعراضاً لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيباً وأبعاضاً أو تسميتها تركيباً وأبعاضاً لا يمنع ثبوتها . فإن قال : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض . فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية ، قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال . فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقاً ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه . فإن قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف . فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضاً بغير متحيز ، وإن لم يكن له في الشاهد نظير ، قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير . فإن نفي عقل هذا نفي عقل ذاك ، وإن كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضاً مستلزماً لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضاً ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق . وأصل ذلك : أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب . ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلّمة ، ومدلولاً عليها بنوع قياس . وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعيّ لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى ، فصاروا أحزاباً ، تارة يغلّبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضيّ ، فإنه قد قيل : أول ما تُكُلَّم في الجسم نفياً وإثباتاً من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف ، فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون إحالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض . فما أعلم أحداً من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، إذ كلامهم من عند غير الله ، وقد قال الله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . والصواب ما عليه أئمة الهدى : وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والإيمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا تردّ بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلى أمانيّ . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون من المتشابه . الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمي بعض ما استدل به الجهمية متشابهاً ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، إما المتشابه ، وإما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قويّ إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران ، أنهم احتجوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنا ونحن " ونحو ذلك ، ويؤيده أيضاً أنه قد ثبت أن في القرآن متشابهاً ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فإن نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولاً أن نفي علم التأويل ليس نفياً لعلم المعنى ، ونزيده تقريراً أن الله سبحانه يقول : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 27 - 28 ] وقال تعالى : { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ * إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 1 - 2 ] فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرهم . وقال أيضاً : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئاً . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] وقوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال عليّ عليه السلام لما قيل له : هل ترك عندكم رسول لله صلى الله عليه وسلم شيئاً ؟ فقال : لا ! والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه وما في هذه الصحيفة ، فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } [ الأنبياء : 79 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رب مبلغ أوعى من سامع " ، وقال : " بلغوا عني ولو آية " وأيضاً فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها . وفسروها بما يوافق دلالتها . ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول : لو أعلمُ أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته . وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتاً للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في عِلْية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالةً ، أصحاب زيد بن ثابت ، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل عمر ، وابن عمر ، وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفيّاً أو مسكوتاً عنه ، لم يكن ربانيّو الصحابة أهلُ العلم بالكتاب والسنة أكثرَ كلاماً فيه . ثم إن الصحابة نقلوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع عن تفسير آية . قال أبو عبد الرحمن السلميّ : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئاً من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] ، كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول . فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بيّن أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما أخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك : الكيف معدوم ، وإنما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله الاستواء معلوم أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، قيل : هذا ضعيف ، فإن هذا من باب تحصيل الحاصل ، فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضاً فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا إخبار الله بالاستواء ، وإنما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة . وأيضاً فإنه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [ طه : 46 ] ، كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم ، والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليماً ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضاً فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأن ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر البخاريّ في صحيحه بعضها في آخره ، في ( كتاب الرد على الجهمية ) . وأما التأويلات المحرفة : مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضاً قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " يا عائشة ! إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذي سمى الله ، فاحذريهم " ، وهذا عامّ . وقصة صُبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا ، فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن ، حتى رآه عمر ، فسأل عمر عن : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد . وكان ابن عباس إذا ألحّ عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : ما أحوجك أن يُصنع بك كما صنع عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه " وكما قال تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ } ، فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن " . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : " لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض " فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ، فكان مقصودهم مذموماً ، ومطلوبهم متعذراً ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغاً سأل عمر عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده ، لكن عليّ كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعاً فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه . والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعمله إلا الله تعالى . وكذلك في قوله : " أنا ونحن " ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فإن المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال مالك : والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . فإن قيل : فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل تأويل كل القرآن ، فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مَخْبَرها إلا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] وقوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [ يونس : 39 ] فإن المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فإنه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وإنما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ قدس سره . مع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . وقال الإمام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليمانيّ في كتاب " إيثار الحق على الخلق " في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه : وأما الأصل الثاني وهو السمعيّ فهو اختلافهم في أمرين : أحدهما : في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يردّ المتشابه إلى المحكم ، وثانيهما : اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه . ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولاً ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فإن العوائد التجربية , والأدلة السمعية , دلت على امتناع الإتفاق في تفاصيل الحكم , وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ ص : 69 ] وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل المائة نفس ، إلى أمثال لذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وإن علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلته لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ، ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافاً . خصوصاً من المقلدين . وإنما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليهما السلام . وهذه فائدة نفيسة جدّاً ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السمع إلى ذلك بقوله تعالى : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] . وقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } [ الحجرات : 7 ] . وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز . أما الأمر الأول : وهو اختلافهم في ماهيتهما . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل إلا معنى واحداً ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجليّ ، وما عداه متشابه . وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ ، ومنهم من قال : القصص والأمثال ، ( ومنهم من عكس ) فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك - حكى الجميع الإمام يحيى في ( الحاوي ) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقليّ ، والمتشابه به ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة . وقد ترك الإمام والشيخ ابن تيمية وجهاً آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء ، والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلاً له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فإن قوله : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول إليه ، على ما فسره الشيخ . فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئاً من الظواهر بعقولهم ، فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحاً لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور : أحدها : أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصوير والتفصيل أو على جهة الإحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ولقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] وإنما تُتَصَوَّر المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز وجل على العقول : امتنع منها بها ، وإليها حاكمها . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضاً ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء . الجميع ، ومهم الباطنية ، ودونهم الجهمية ، ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أُتوا من تعاطى علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضاً في الأدلة السمعية . فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ما ليس من التشبيه . والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعاً إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في أماليه بإسناده من حديث زيد بن أسلم أن رجلاً سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ! هل تصف لنا ربنا فنزداد له حباً ؟ فغضب عليه السلام ونادى ( الصلاة جامعة ) فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسيّ كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم وهم من ملكوت القدس كلهم ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : { سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } [ البقرة : 32 ] . فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتَقَدَّمَكَ فيه الرسل بينك وبين معرفته فأْتم به واستضئ بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، ولا في سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أئمة الهدي أثره فَكِلْ علمه إلى الله سبحانه ، فإنه منتهى حق الله عليك . وقد روى السيّد في الأمالي أيضاً الحديث المشهور في كتاب الترمذيّ عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : " " ستكون فتنة " ! قلت : فما المخرج منها ؟ قال : " كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم , فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله " إلى قوله : " من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " ورواه في أماليه بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه . ورواه ابن الأثير في ( الجامع ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهم الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العنانيّ ، وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وإن لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى . وما يؤدي إليه . الأمر الثاني : من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 33 ] وفي ذلك إشارة واضحة إلى ما سيأتي بيانه من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، وإليه الإشارة بقوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال الله : " كفَّ عن عبادي . إن مصير عبدي مني إحدى ثلاث : إما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني " - رواه الطبرانيّ . وقال الإمام الغزاليّ في كتاب العلم في ( الإحياء ) في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرّاً ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا : إن كل شيء بقضاء من الله وقدر - حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه . ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراونديّ وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشى أوهم عند أكثر الخلق عجزاً ، إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم . وقال في شرح ( أسماء الله الحسنى ) في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى فيه خيراً ، أو إن تحصيل ذلك الخير من غير شر أولي ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فإنك مثل أم الصبيّ التي ترى الحجامة شرّاً محضاً . والغبيّ الذي يرى القصاص شرّاً محضاً ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، ولا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا . وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في ( العواصم ) والسر في ذلك أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعاً ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 179 ] ، وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدرة في الجملة ، وإنما الذي خفى تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزاً ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيتُ الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في ( العواصم ) ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي ، فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدَر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثاً ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) ، فأفردت ذلك في جزء لطيف ، وزدت عليه . ومضمون كلامهم أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شراً ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأول الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معاً . ونصر ذلك الغزاليّ في شرح { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، ولنورد في ذلك حديثاً واحداً ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقيّ في كتابه ( الأسماء والصفات ) عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تُعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أُسأل عما افعل ، وهم يُسألون . فانتهى مُوسى . ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد فيه : فلما بعث الله عزيراً سأل اللهَ مثل ما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصرّ صرّة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه . أما أني لا أجعل عقوبتك إلا أني أمحو اسمك من الأنبياء ، فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى . وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه . وروى الطبرانيّ عن وهب عن ابن عباس أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثاً أجهلهم به ، وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظراً ازداد تحيراً . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . والجواب الجمليّ عليهم كما مر . وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضهم ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في ( العواصم ) وأقلُّ من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة . الأمر الثالث : من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فإن الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة . والفرق بينها وبين أقيموا الصلاة ، ونحو ذلك ضروريّ ، ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتاباً من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ، ونحو ذلك . وهذا هو اختيار زيد بن عليّ عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهما السلام ، وهو نص في تفسيرهما المجموع . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في ( الحاوي ) . وقولهم : إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها - مقلوب - وصوابه : أن لا نفهمها فيجب ألا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في تكميلة ترجيح أساليب القرآن . الأمر الرابع : من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله : { إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَاكِمِينَ * قَالَ يٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 45 - 46 ] . وأما المحكوم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجليّ ، والظاهر الذي لم يعارض ، والمفهوم والصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وإن عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا . فوائد الأولى : الصحيح في قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغي تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في ( الحاوي ) واحتج بأن " أَمَّا " للتفصيل على بابها ، والتقدير و " أما الراسخون " بدليل قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي : وأما عمرو فجاهل ، يوضحه أن المخالف مسلّم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : إنه يجب تأويلها على أن المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد إطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع أنها الفارقة بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف . وقد روى الحاكم عن ابن عباس أنه قرأ : " ويقول الراسخون " وقال : صحيح . ورواه الزمخشريّ في كشافه قراءة عن أبيّ وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في أماليه عن عليّ عليه السلام . ولم يتأوله ولم يطعن فيه . وهو في ( النهج ) أيضاً ، وهو نص لا يمكن تأويله . فإن لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً ، وسمى تركهم التعمق ، فيما لم يكلفهم البحث عنه رسوخاً . فاقتصر على ذلك . انتهى بحروفه . وأيضاً فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، إذ في المكلفين الأميّ والعجميّ ونحوهم . وإذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ، جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله أعلم . الفائدة الثانية : إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية . وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على إثبات الخلة للمتقين ، وتأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك . الفائدة الثالثة : إذا كان التحسين العقليّ مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بيّن وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضعها ترشد . إن شاء الله تعالى .