Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 82-82)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَمَنْ تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم . ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية . وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم ، وإن كان ناسخاً لبعض أحكامهم بما دلت الحكمة على اقتضاء الزمان ذلك ، آمنوا به ونصروه أيضاً ، مبالغة في تشهير أمره . ولا يمنعهم ما هم فيه من العلم والنبوة واتباع شرعه ونصره . وأخبر أنهم قبلوا ذلك ، وحكم بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين . وقد قرئ في السبع بفتح اللام من : " لِمَا ءَاتَيْتُكُمْ " . وكسرها ، فعلى الأول هي موطئة للقسم ، لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، و { مَا } حينئذ تحتمل الشرطية ، و { لَتُؤْمِنُنَّ } سادّ مسد جواب القسم والشرط . وتحتمل الموصولة بمعنى " لَلَّذِي أَتَيْتُكُمُوهُ لَتُؤْمِنُنَّ بهِ " وعلى الثاني ، أعني كسر اللام فـ { مَا } إما مصدرية أي : لأجل إيتائي إياكم الكتاب ثم لمجيء رسول مصدق لكم غير مخالف أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه . وإما موصولة والمعنى أخذه للذي آتيتمكموه ، وجاءكم رسول مصدق له ، وقوله تعالى : { فَٱشْهَدُواْ } . أي : يا أنبياء ، بعضكم على بعض ، بالإقرار . وفي قوله تعالى : { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ } [ آل عمران : 81 ] توكيد عليهم . ومن أمعن في نهج الآية علم أن هذا الميثاق قد بولغ في شأنه غاية المبالغة ، وإذا كان هذا الإيجاب مع الأنبياء ، فمع أممهم أولى . وقد روي عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمداً ، وهو حيّ ، ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه . قال ابن كثير : وهذا لا يضادّ ما قاله طاوس والحسن وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، بل يستلزمه ويقتضيه ، ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه مثل قول عليّ وابن عباس - انتهى . ومن أثر عليّ عليه السلام هذا ، فهم بعض العلماء اختصاص هذا الميثاق بنينا صلى الله عليه وسلم كما نقل القاضي عياض في الشفاء عن أبي الحسن القابسيّ قال : استخص الله تعالى محمداً بفضلٍ لم يؤته غيره أبانه به . وهو ما ذكره في هذه الآية - انتهى - وقد علمت المراد . بقي أن الإمام أبا مسلم الأصفهانيّ ذهب إلى أن في قوله تعالى : { مِيثَاقَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } [ آل عمران : 81 ] حذف مضاف ، أي : أممهم ، وعبارته : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه ، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفاً ، فلما كان الذين أخذ عليهم الميثاق يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ، ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء ، عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين ، بل هم أمم النبيين . قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق ، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما يليق بالأمم . أجاب القفال رحمه الله فقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ونظيره قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض ، فكذا هنا . وقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46 ] وقال في صفة الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّيۤ إِلَـٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 29 ] مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 27 ] وبأنهم : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير ، فكذا ههنا . ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي ، فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، وقد ذكر تعالى على سبيل الفرض والتقدير في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] فكذا ههنا - نقله الرازيّ . ولما بين تعالى أن الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم شرعٌ شرعه وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله . فلهذا قال : { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً … } .