Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 97-97)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ } وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت . قال ابن كثير : وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق ، بحيث يتمكن الطُّوَّاف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده ، حيث قال : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة . قال بعض المفسرين : ثمرة الآية : الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه ، لأنه تعالى وصفة بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات . لطيفة مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره ، أي : منها مقام إبراهيم ، أو بدل من آيات ، بدل البعض من الكل ، أو عطف بيان ، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً } [ النحل : 120 ] . أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة . قالوا : فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء ، وغوصه فيها إلى الكعبين ، وإلانة بعض الصخور دون بعض ، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام ، وحفظه مع كثرة الأعداء ، ألوف السنين ، آية مستقلة . ويؤيده قراءة " آية بينة " على التوحيد ، وإما بما يفهم من قوله عز وجل : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية ، لكنها في قوة أن يقال " وأمن من دخله " فتكون ، بحسب المعنى والمآل ، معطوفة على مقام إبراهيم ، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك ، أو يحمل على أنه ذُكِرَ من تلك الآيات اثنتان وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها - أفاده أبو السعود - . قال المهايميّ : { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ } رمى الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعاء تحت ميزابه ، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر ، ومن أعظمها . النازل منزلة الكل ، مقام إبراهيم ، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت ، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء ، ثم لين ، فغرقت فيه قدماه ، كأنهما في طين ، فبقي أثره إلى يوم القيامة . ومن آياته أن من دخله كان آمناً من نهب العرب وقتالهم ، وقد أمن صيده وأشجاره . ا . هـ . قال أبو السعود : ومعنى أمن داخله أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وكان الرجل لو جرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب . وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه . ا . هـ . تنبيه ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيُّ الذي وردت به الآيات ، وأوضحته الأحاديث والآثار . ففي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " لا هجرة ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " وقال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يَلتقط لُقَطَتَهُ إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها " . فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : " إلا الإذخر " ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ؛ ولهما ، واللفظ لمسلم أيضاً ، عن أبي شريح العدويّ أنه قال لعمرو بن سعيد ، وهو يبعث البعوث إلى مكة ، ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي ، حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : " إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب " فقيل لأبي شريح : ما قال لك ؟ قال : " أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح . إن الحرم لا يعيذ عاصياً ، ولا فارّاً بدم ، ولا فارّاً بِخَرْبَةٍ " . قال الإمام ابن القيّم في زاد المعاد : قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دما ، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها ، وهو الذي يباح في غيرها ، ويحرم فيها ، لكونها حرما ، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها ، هو أمر مختص بها ، وهو مباح في غيرها ، إذ الجميع في كلام واحد ، ونظام واحد ، وإلا بطلت فائدة التخصيص ، وهذا أنواع : أحدها : وهو الذي ساقه أبو شريح العدويّ لأجله ، أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل لا سيما إن كان لها تأويل . كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد ، وبايعوا ابن الزبير ، فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزاً بالنص والإجماع ، وإنما خالف في ذلك عمرو بن سعيد الفاسق وشيعته ، وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال : " إن الحرم لا يعيذ عاصياً . فيقال له : هو لا يعيذ عاصياً من عذاب الله ، ولو لم يُعِذّه من سفك دمه لم يكن حرماً بالنسبة إلى الآدميين ، وكان حرماً بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم ، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه ، وقام الإسلام على ذلك ، وإنما لم يعد مِقْيَسَ بن صُبَابة وابن خطل ومن سمي معهما لأنه في تلك الساعة لم يكن حرماً بل حلا ، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السماوات والأرض . وكانت العرب في جاهليتها ، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه ، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صَار بها حرماً . ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه ، وعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل ، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه : " فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك " ، وعلى هذا فمن أتى حداً أو قصاصاً خارج الحرم يوجب القتل ، ثم لجأ إليه ، لم يجز إقامته عليه فيه . وذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وذكر عن عبد الله بن عمر أنه قال : لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته . وعن ابن عباس أنه قال : لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه ، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم ، بل لا يحفظ عن تابعيّ ولا صحابيّ خلافه . وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق ، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث . وذهب مالك والشافعيّ إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل ، وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان ، وبأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، وبما يروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فارّاً بدم ولا بخربة " ، وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم ، ولم يمنعه من إقامته عليه ، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدّاً أو قصاصاً لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته ، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه ، إذ كونه حرماً بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين ، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده ، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئاً إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه ، كالحية والحدأة والكلب العقور ، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم " فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة - وهي فسقهن - ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعاً من قتلهن ، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل . قال الأولون : ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة ، ولا سيما قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلق في خبره تعالى ، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه ، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] . وقوله تعالى : { وَقَالُوۤاْ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] . وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم : من دخله كان آمناً من النار ، وقول بعضهم : كان آمناً من الموت على غير الإسلام ، ونحو ذلك ، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم . وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل زمان ومكان فيقال أولا : لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه ، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه ، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه ، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها ، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام ، فلا يقول مَحَصِّلٌ إن قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ } [ النساء : 24 ] . مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليّها ، أو بغير شهود ، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه ، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع ، لئلا يبطل موجبها ، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره ، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه ، والحال المحرّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أوالحر ، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة ؟ وإن قلتم : ليس ذلك تخصيصاً بل تقييداً لمطلقها كِلْنا لكم هذا الصاع سواء بسواء . وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل ، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق ، ونص على أن ذلك من خصائصه ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " ، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة ، إذ لو كان حلالاً في كل وقت ، لم يختص بتلك الساعة ، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها ، فيما عدا تلك الساعة . وأما قوله : الحرم لا يعيذ عاصياً ، فهو من كلام الفاسق عمرو بن سعيد الأشدق ، يرّد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبيّ هذا الحديث ، كما جاء مبيناً في الصحيح ، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وأما قولكم : لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه ، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله ، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها ، ومن فرق قال سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه ما دونه ، لأن حرمة النفس أعظم ؛ والانتهاك بالقتل أشد ، قالوا : ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب ، فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده . وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس ما دونها في ذلك . قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل ، قال : والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرم لم يُقَم عليه الحد حتى يخرج منه ، قالوا : وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب ، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام ، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض ، فتحقق بطلانه على التقديرين . قالوا : وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد ، فكذلك اللاجئ إليه ، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما . فروى الإمام أحمد ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس قال : من سرق أو قتل في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد . وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم . وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضاً : من أحدث حدثاً في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] . والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه : أحدها : أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه ، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه ، فقياس أحدهما على الآخر باطل . الثاني : أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه ، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيراً . الثالث : أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره . الرابع : أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله ، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله . والخامس : أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره ، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج ، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته . فظهر سر الفرق ، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه ، وأما قولكم إنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس ، فإن الكلب العقور طبعه الأذى ، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله . وأما الآدميّ فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة ، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات ، فإن الحرم يعصمها ، وأيضاً فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء ، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها . انتهى . ( من الجزء الثاني ) . ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر إيجاب الحج فقال : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } اللام في البيت للعهد . وحجه : قصده للزيارة بالنسك المعروف . وكسر الحاء وفتحها لغتان ، وهما قراءتان سبعيتان . وفي الآية مباحث الأول : في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية : جملة من مبتدأ هو { حِجُّ ٱلْبَيْتِ } وخبر هو { للَّهِ } وقوله تعالى : { عَلَى ٱلنَّاسِ } متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه ذلك الاستقرار ، ويجوز أن يكون { عَلَى ٱلنَّاسِ } هو الخبر ، و { للَّهِ } متعلق بما تعلق به الخبر . ثم قال في قوله تعالى : { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل الخبر على أنه بدل من { ٱلنَّاسِ } بدل البعض من الكل مخصص لعمومه ، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف ، أي : من استطاع منهم ، وقيل : بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع ، فلا حاجة إلى الضمير ، وقيل في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هم من استطاع ، وقيل في حيز النصب بتقدير أعنى . الثاني : هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور ، وقيل : بل هي قوله : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ } [ البقرة : 196 ] ، والأول أظهر . وفي فتح البيان : اللام في قوله { للَّهِ } هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف { عَلَى } فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب ، كما إذا قال القائل : لفلان عليّ كذا . فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته . وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً . الثالث : يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة . بالنص والإجماع ؛ روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس إنه فرض الله عليكم الحج فحجوا " . فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت . حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " . ثم قال : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائيّ وغيرهم عن ابن عباس قال : " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ! إن الله كتب عليكم الحج " ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فقال : " لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع " " . الرابع : استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه . قال ابن المنذر : اختلف العلماء في قوله تعالى : { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقالت طائفة : الآية على العموم ، إذ لا نعلم خبراً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماعاً لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضاً ، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة ، الحجُّ . على ظاهر الآية . قال : وروينا عن عكرمة أنه قال : الاستطاعة الصحة . وقال الضحاك : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه . فقال له قائل : أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حج البيت . وقال مالك : الاستطاعة على إطاقة الناس ، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي ، وآخر يقدر على المشي على رجليه . وقالت طائفة : الاستطاعة : الزاد والراحلة ، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد ابن حنبل ، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلاً قال : " يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : " الزاد والراحلة " - رواه الترمذيّ - وفي إسناده الخوزي فيه مقال . قال ابن كثير : لكن قد تابعه غيره . وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث . ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل : { مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . فقيل : ما السبيل ؟ قال : " الزاد والراحلة " ، ثم قال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه . الخامس : قال الإمام ابن القيّم الدمشقي رضي الله عنه في زاد المعاد في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته : لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر ، واختلف هل حج قبل الهجرة ؟ وروى الترمذيّ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : حج النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج : حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعد ما هاجر ، معها عمرة . قال الترمذيّ : هذا حديث غريب من حديث سفيان . قال : وسألت محمداً - يعني البخاريّ - عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوريّ . وفي رواية : لا يعد هذا الحديث محفوظاً . ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير ، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر . وأما قوله تعالى : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [ البقرة : 196 ] ، فإنها ، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية ، فليس فيها فريضة الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء . فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟ قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة . ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] ، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية . ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع . وبعث الصدّيقَ يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج وأردفه بعليّ رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم . وقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ } إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى ، لا تعلق له بما قبله ، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه ، وهو أظهر وأبلغ . والكفر على هذا ، إما بمعنى جحد فريضة الحج ، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به . ونظيره في السنة ما رواه النسائيّ والترمذيّ عن بريدة مرفوعاً : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " وعن عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة - أخرجه الترمذيّ - ولأبي داود عن جابر مرفوعاً : " بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة " ولفظ مسلم : " بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة " وروى الترمذيّ عن عليّ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً " ، وذلك أن الله تعالى يقول : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } . قال الترمذيّ : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيليّ عن عمر بن الخطاب قال : من أطاق الحج فلم يحج ، فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً . قال ابن كثير : إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه : وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصريّ قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد هممت أن أبعث رجلاً إلى هذه الأمصار ، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين . قال السيوطيّ في الإكليل : وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج ، وإن لم ينكره ، كفر . ثم قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر : من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج ، كان سيماه بين عينيه كافر ، ثم تلا هذه الآية . تنبيه هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه ، فمنها الإتيان بـ ( اللام وعلى ) في قوله : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } . يعني : أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته ، ومنها أنه ذكر ( الناس ) ثم أبدل عنه من ( استطاع إليه سبيلا ) ، وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما : أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له . والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام ، والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين . ومنها : قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان " من لم يحج " تغليظاً على تارك الحج . ومنها ذكر الاستغناء عنه . وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : { عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ } ، ولم يقل : عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه - أشار لذلك الزمخشريّ - ثم عنف تعالى كفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق بقوله : { قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى … } .