Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 67-69)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم حتى قلدوهم فيه { فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ } أي : بما زينوه لنا . قال الزمخشري : وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } أي : مثلي العذاب الذي آتيتناه ، لأنهم ضلوا وأضلوا { وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } أي : لعنا هو أشد اللعن وأعظمه . وقرئ : ( كثيرا ) تكثيرا لأعداد اللعائن . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } لما بين تعالى وعيد من يؤذي نبيه صلّى الله عليه وسلم ، من استحقاقه اللعنة في الدارين ، تعريضا بمن صدر منهم شيء من الأذى في قصة زيد وزينب ، التي سيقت السورة لأجلها ، ختمها أيضا بالوصية بالتباعد عن التشبه بقوم صدر منهم إيذاء لموسى عليه السلام ، بتنقيصه تارة ، وقلة الأدب معه طورا ، ونسبته إلى ما ينافي الرسالة آونة . كما يمر كثير من ذلك بقارئي توراتهم . مما ينبيء عن عدم إيفائهم رسالته ونبوته حقها ، من التعظيم له والصلاة عليه والتسليم لأمره وقضيته . فكانت النتيجة أن غضب الله عليهم ورماهم بأفانين العقوبات ، ولحقتهم المخازي ، وبرأ رسوله موسى عليه السلام من إفكهم ، ونزه مقامه عن تنقيصهم ، بأن حقق فضله ، وأسمى منزلته ، وآتاه الوجاهة - وهي العظمة والقرب - عنده . وهكذا حقت كلمة اللعنة والخزي على مؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، ولحقهم الدمار ، وشرح لنبيه صدره ، ورفع له ذكره ، وأعلى منزلته ، وفخم وجاهته ، ما تعاقبت الأدوار . ويقرب من هذه الآية ، في المعنى والإشارة ، قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ الصف : 5 ] وفيهما كلتيهما تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلم بتأسّيه بأخيه موسى صلوات الله وسلامه عليهما . وكثيراً ما كان يقول صلّى الله عليه وسلم في جواب جفاة الأعراب حين ما يبلغه أو يسمع ما يكره : " رحمة الله على موسى . لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " . وقد روى المفسرون ههنا آثاراً . أحسنها ما أخرجه البزار عن أنس مرفوعاً : " كان موسى رجلا حيياً ، وأنه أتى الماء ليغتسل . فوضع ثيابه على صخرة . وكان لا يكاد تبدو عورته . فقال بنو إسرائيل إن موسى آدَرُ أو به آفة . يعنون أنه لا يضع ثيابه . فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء بني إسرائيل . فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال . أو كما قال . " فذلك قوله : { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ ٱللَّهِ وَجِيهاً } ورواه البخاريّ في صحيحه عن أبي هريرة أيضا . قال الرازي : وحديث إيذاء موسى مختلف فيه - أي : لكثرة الروايات فيه - مع أن الإيذاء المذكور في القرآن كاف كقولهم : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ } [ المائدة : 24 ] وقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] وقولهم : { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] إلى غير ذلك . فقال للمؤمنين : لا تكونوا أمثالهم . انتهى . و قال ابن كثير : يحتمل أن يكون كل ما روي مراداً . وأن يكون معه غيره . انتهى ؛ أي لعموم المعمول المحذوف . وما بيناه أولاً ، هو الأقرب . والله أعلم . تنبيهات الأول : ( الوجيه ) لغة بمعنى السيد ، كالوجه . يقال : هؤلاء وجوه البلد ووجهاؤه . أي أشرافه . وبمعنى ذي الجاه - والجاه القدر والمنزلة مقلوب عن ( وجه ) فلما أخرت ( الواو ) إلى موضع ( العين ) وصارت جَوَها ، قلبت ( الواو ) ألفا . فصارت ( جاها ) . وكذا في القاموس وشرحه . الثاني : قال الزمخشري : { وَجِيهاً } أي : ذا جاه ومنزلة عنده . فلذلك كان يميط عنه التهم ويدفع الأذى ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة . كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة . وقال ابن جرير : أي : كان موسى عند الله مشفّعاً فيما يَسأل ، ذا وجه ومنزلة عنده ، بطاعته إياه . أي : مقبولا ومجابا فيما يطلب لقومه من الله تعالى ، عناية منه تعالى وتفضيلا . الثالث : اتخذ العامة ، وكثير من المتعالمين ، وصف الوجاهة للأنبياء ، ذريعة للطلب والرغبة منهم ، مما لا ينطبق على عقل ولا نقل ، ولا يصدق على المعنى اللغويّ بوجه ما . وقد كتب في ذلك الإمام الشيخ محمد عبده فتيا ، أبان وجه الصواب فيما تشابه من هذه المسألة . وذلك أنه سئل ، رحمه الله ، عمن يتوسل بالأنبياء والأولياء ، معتقداً أن النبيّ أو الوليّ يستميل إرادة الله تعالى عما هي عليه ، كما هو المعروف للناس من معنى الشفاعة والجاه عند الحاكم . وأن التوسل بهم إلى الله تعالى كالتوسل بأكابر الناس إلى الحكام . فقال امرؤ : إن هذه مخلّ بالعقيدة وإن قياس التوسل إلى الله تعالى على التوسل بالحكام محال . وإن عقيدة التوحيد أن لا فاعل ولا نافع ولا ضار إلا الله تعالى . وإنه لا يدعى معه أحد سواه . كما قال تعالى : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] وإن النبي صلّى الله عليه وسلم ، وإن كان أعظم . منزلة عند الله تعالى من جميع البشر ، وأعظم الناس جاها ومحبة ، وأقربهم إليه ، ليس له من الأمر شيء ، ولا يملك للناس ضراً ولا نفعا ولا رشداً ولا غيره . كما في نص القرآن . وإنما هو مبلّغ عن الله تعالى . ولا يتوسل إليه تعالى إلا بالعمل بما جاء على لسانه صلّى الله عليه وسلم ، واتباع ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون من هديه وسنته . وإنه لا سبب لجلب المنافع ودفع المضارّ إلا ما هدى الله الناس إليه . ولا معنى للتوسل بنبيّ أو وليّ إلا باتباعه والاقتداء به . يرشدنا إلى هذا كثير من الآيات الواردة في القرآن العظيم ، كقوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] إلى غير ذلك من الآيات . هذا هو اعتقادي وهو الذي قلته للناس . فإن كنتم ترون فيه خطبأ فأرجو بيانه . وإن كان هو الصواب فأرجو إقراري عليه كتابة ، لأدافع بذلك من أساء بي الظن . فأجاب رحمه الله ، بعد البسملة والحوقلة : اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح . ولا يشوبه شوب من الخطأ . وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم أن يعتقده . فإن الأساس الذي ينبت عليه رسالة النبيّ محمد صلّى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد . كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ * ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [ الإخلاص : 1 - 2 ] و : ( الصمد ) هو الذي يقصد في الحاجات ، ويتوجه إليه المربون في معونتهم على ما يطلبون ، وإمدادهم بالقوة فيما تضعف عنه قواهم . والإتيان بالخبر على هذه الصورة يفيد الحصر . كما هو معروف عند أهل اللغة . فلا صَمَدَ إلا هو . وقد أرشدنا إلى وجوب القصد إليه وحده بأصرح عبارة في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] وقد قال الشيخ محيي الدين بن العربيّ ، شيخ الصوفية ، في صفحة 226 من الجزء الرابع من ( فتوحاته ) عند الكلام على هذه الآية : إن الله تعالى لم يترك لعبده حجة عليه . بل لله الحجة البالغة . فلا يتوسل إليه بغيره . فإن التوسل إنما هو طلب القرب منه . وقد أخبرنا الله أنه قريب . وخبره صدق . انتهى ملخصاً . على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم في هذا الشأن ، إنما يتكلمون فيه بالمبهمات ، ويسلكون طرقاً من التأويل لا تنطبق على ما في نفوس الناس . ويفسرون الجاه والواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين . فأيّ حالة تدعوهم إلى ذلك ؟ وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى ، ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه ، وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك ، فكل ما حدث بعد ذلك فأقل أوصافه أنه ( بدعة ) في الدين وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله تعالى وسوء الظن به . كهذه البدع التي نحن بصدد الكلام فيها ، وكأن هؤلاء الزاعمين يظنون أن في ذلك تعظيماً لقدر النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، أو الأنبياء أو الأولياء . مع أن أفضل التعظيم للأنبياء هو الوقوف عندما جاءوا به ، واتقاء الزيادة عليهم فيما شرعوه بإذن ربهم . وتعظيم الأولياء يكون باختيار ما اختاروه لأنفسهم . وظنّ هؤلاء الزاعمين أن الأنبياء والأولياء يفرحون بإطرائهم وتنظيم المدائح وعزوها إليهم ، وتفخيم الألفاظ عند ذكرهم ، واختراع شئون لهم مع الله ، لم ترد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا رضيها السلف الصالح . هذا الظن بالأنبياء والأولياء هو أسوأ الظن . لأنهم شبهوهم في ذلك بالجبارين من أهل الدنيا ، الذين غشيت أبصارهم ظلمات الجهل قبل لقاء الموت ، وليس يخطر بالبال أن جباراً لقي الموت وانكشف له الغطاء عن أمر ربه فيه ، يرضى أن يفخمه الناس بما لم يشرعه الله . فكيف بالأنبياء والصديقين ؟ إن لفظ ( الجاه ) الذي يضيفونه إلى الأنبياء والأولياء عند التوسل ، مفهومه العرفيّ هو السلطة . وإن شئت قلت نفاذ الكلمة عند من يستعمل عليه أو لديه ، فيقال فلان اغتصب مال فلان بجاهه ، ويقال فلان خلص فلانا من عقوبة الذنب بجاهه ، لدى الأمير أو الوزير مثلا . فزعمُ زاعم أن لفلان جاها عند الله بهذا المعنى ، إشراك جليّ لا خفيّ . وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغويّ ، وهو المنزلة والقدر . على أنه لا معنى للتوسل بالقدر والمنزلة نفسها . لأنها ليست شيئاً ينفع . وإنما يكون لذلك معنى ، لو أوَّلَتْ بصفة من صفات الله ، كالاجتباء والاصطفاء ، ولا علاقة لها بالدعاء ولا يمكن لمتوسل أن يقصدها في دعائه . وإن كان ( الآلوسي ) بنى تجويز التوسل بجاه النبيّ خاصة على ذلك التأويل . وما حمله على هذا إلا خوفه من ألسنة العامة وسباب الجهال وهو مما لا قيمة له عند العارفين فالتوسل بلفظ الجاه مبتدع بعد القرون الثلاثة . وفيه شبهة الشرك والعياذ بالله ، وشبهة العدول عما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم . فَلِمَ الإصرار على تحسين هذه البدعة ؟ يقول بعض الناس : إن لنا على ذلك حجة لا أبلغ منها . وهي ما رواه الترمذيّ بسنده إلى عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال : " إن رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني فقال : " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك " . قال : فادعه . قال فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ، ويدعو بهذا الدعاء : " اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة . يا محمد ! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي . اللهم فشفعه فيّ " قال الترمذي : وهو حديث حسن صحيح غريب ، ونقول أولاً : قد وصف الحديث بالغريب ، وهو ما رواه واحد . ثم يكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به ، أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله ، وهم أعلم منا بما يجب الأخذ به من ذلك . ولا وجه لابتعادهم عن العمل به ، إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي . كما قال عمر رضي الله عنه ، في حديث الاستسقاء : إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلّى الله عليه وسلم فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبيك العباس فاسقنا ، قال ذلك ، رضي الله عنه ، والعباس بجانبه يدعو الله تعالى ، ولو كان التوسل ما يزعم هؤلاء الزاعمون ، لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم ، ولا يقول ( كنا نستسقي بنبيك ) وطلب الاشتراك في الدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه ، بل ويكون من الأعلى للأدنى ، كما ورد في الحديث ، وليس فيه ما يخشى منه ، فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حيّ ، كلاهما عبد يسأل الله تعالى ، والشريك في الدعاء شريك في العبودية ، لا وزير يتصرف في إرادة الأمير كما يظنون { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] ثم المسألة داخلة في باب العقائد ، لا في باب الأعمال . ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال ( هل يجوز أن نعتقد بأن واحداً سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز ) ؟ أما الكتاب فصريح في أن تلك العقيدة من عقائد المشركين ، وقد نعاها عليهم في قوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] الآية ، وقد جاء في السورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] فلا استعانة إلا به ، وقد صرح الكتاب بأن أحداً لا يملك للناس من الله نفعاً ولا ضراً ، وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية كما بيّنا . ثم البرهان العقليّ يرشد إلى أن الله تعالى في أعماله لا يقاس بالحكام وأمثالهم في التحول عن إرادتهم ، بما يتخذه أهل الجاه عندهم ، لتنزّهه جل شأنه عن ذلك . ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة ، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين ، إما بالمقدمات العقلية البرهانية أو بالأدلة السمعية المتواترة ، ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة مهما قوي سنده . فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن . { وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [ النجم : 28 ] انتهى كلامه رحمه الله . ثم راجعت ( اقتضاء الصراط المستقيم ) للإمام العلَم تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه . فرأيته ذكر نحواً من ذلك ، وعبارته : فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها ، تعمّ الوسيلة في عبادته وفي مسألته . فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها ، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ، ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته . ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله ، كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعوَ لهم في الاستسقاء وغيره : وقول عمر رضي الله عنه ( إنا كنا ، إذا أجْدبْنَا ، توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا ) معناه نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله ، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته . ليس المراد به ، إنا نقسم عليك به . أو ما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه . كما يقوله بعض الناس : أسألك بجاه فلان عندك ، ويقولون : إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ، ويروون حديثا موضوعا ( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي ، فإن جاهي عند الله عريض ) فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه ، كما ذكر عمر رضي الله عنه ، لفعلوا ذلك بعد موته ، ولم يعدلوا عنه إلى العباس . مع علمهم أن السؤال به والإقسام به ، أعظم من العباس . فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه ، وهو مما يفعل بالأحياء دون الأموات . وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم . فإن الحيّ يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء ، لا دعاء ولا غيره . وكذلك حديث الأعمى . فإنه طلب من النبي صلّى الله عليه وسلم أن يدعوا له ليردّ الله عليه بصره . فعلّمه النبيّ صلّى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه ، أن يسأل الله قبول شفاعة نبيّه فيه . فهذا يدل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم شفع فيه ، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته ، وأن قوله : ( أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة ) أي : بدعائه وشفاعته . كما قال عمر : كنا نتوسل إليك بنبينا . فلفظ ( التوجه ) و ( التوسل ) في الحديثين بمعنى واحد . ثم قال : ( يا محمد ! يا رسول الله ! إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها . اللهم ! فشفعه فيّ ) فطلب من الله أن يشفع فيه نبيّه . وقوله : ( يا محمد ! يا نبي الله ! ) هذا وأمثاله نداء . يطلب به استحضار المنادى في القلب . فيخاطب المشهود بالقلب . كما يقول المصلّي : السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته . والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً . يخاطب من يتصوره في نفسه . وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب . فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به ، فيه إجمال واشتراك . غلظ تسببه من لم يفهم مقصد الصحابة ، يراد به التشبث به ( في الأصل : التسبب به ) لكونه داعياً وشافعاً مثلاً . أو لكونه الداعي محبباً له ، مطيعاً لأمره ، مقتدياً به . فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له ، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته . فلا يكون التوسل ، لا شيء منه ولا شيء من السائل ، بل بذاته أو بمجرد الإقسام به على الله . فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه . انتهى .