Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 73-73)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } أي : حملها الإنسان ليعذب الله بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة . على أن اللام للعاقبة . فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا له من الحمل ، لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ، ترتب الأغراض على الأفعال المعللة بها ، أبرز في معرض الغرض - أي : كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية . وإلى الفريق الثاني أشير بقوله تعالى : { وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } أي : كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده . أي : يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة . وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات . قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلّته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة . والالتفات إلى الاسم الجليل أولاً ، لتهويل الخطب وتربية المهابة . والإظهارُ في موضع الإضمار ثانيا ، لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي : مبالغا في المغفرة والرحمة . حيث تاب عليهم وغفر لهم فرطاتهم وأثاب بالفوز على طاعاتهم . انتهى ملخصا مما حرره أبو السعود . وقد آثرت نقله بحروفه لتجويده الكلام ، وإجادته في المقام . وهكذا عادتنا في كل مجوّد ، أن ننقله ولا نتصرف فيه . بقي في الآية لطائف نشير إليها الأولى : فسر بعض السلف الأمانة بالطاعة ، وبعضهم بالفرائض والحدود والدين . وبعضهم بمعرفته تعالى . قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال لا تنافِي بينها ، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها . وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب . انتهى . وقيل : المراد بالأمانة الطاعة التي تعمّ الطبيعة والاختيارية ، لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء . وبعرضها ، استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من المختار ، وإرادة صدوره من غيره - وبحملها ، والخيانة فيها والامتناع عن أدائها ، فيكون الإباء امتناعاً عن الخيانة وإتياناً بالمراد . فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها ، أبَيّنَ الخيانة وانقدن لأمره تعالى انقياد مثلها . حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية ، وعلى هيئات مختلفة وأشكال متنوعة . كما قال : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وخانها الإنسان حيث لم يأت - وهو حيوان عاقل صالح للتكيف - بما أمرناه به ؛ إنه كان ظلوماً جهولا . وإرادة الخيانة من حملها ، هو بتشبيه الأمانة قبل أدائها بحمل يحمله . كما يقال ( ركبته الديون ) وقرره الزمخشري بقوله : وأما حمل الأمانة فمن قولك : ( فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ) تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، ويخرج عن عهدتها . لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤمنين عليها ، وهو حاملها . ألا تراهم يقولون : ( ركبته الديون ) و ( لي عليه حق ) فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها . ومنه قولهم : ( أبغض حق أخيك ) لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤدّه . وإذا أبغضه أخرجه وأداه فمعنى ( فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ) فأبين إلا أن يؤدينها . وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها . ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه . وهو أداؤها . انتهى ملخصا . الثانية : نقل ابن كثير : آثاراً عن بعض التابعين ؛ أن عرض الأمانة على هذه الأجرام كان حقيقيا . وأنه قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت . فقلن : يا رب ! إنا لا نستطيع هذا الأمر ، ليس بنا قوة . ولكنا لك مطيعين . قال الشراح : ولا بُعْد ، أن يخلق الله فيها فهماً لخطابه ، وأنه كان على سبيل التخيير لها . ولذا عبر بالعرض ، لا تكليفا حتى يلزم عصيانها . انتهى . قال الإمام ابن حزم في ( الفِصَل ) في الرد على من جعل للجمادات تمييزا ، ما مثاله : وأما عرضه تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وإباية كل واحد منها ، فلسنا نعلم نحن ولا أحد من الناس كيفية ذلك . وهذا نص قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [ الكهف : 51 ] فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق ، وأن له مبدأ لا يشبهه البتة ، فأراد معرفة كيف كان ، فقد دخل في قوله تعالى : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ } [ النور : 15 ] . إلا أننا نوقن أنه تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة ، إلا وقد جعل فيها تمييزاً لما عرض عليها . وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها . فلما أبتها وأشفقت منها ، سلبها ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة . قال : هذا ما يقتضيه كلامه عز وجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك . انتهى . وذهب جمع إلى أن ذلك من باب المجاز ، كما بينه ابن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) وسبقه الزمخشريّ حيث قال : ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب . ما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم . ومن ذلك قوله ( لو قيل للشحم أين تذهب ، لقال أسوّي العوج ) وكم وكم لهم من أمثالٍ على ألسنة البهائم والجمادات . وتصوُّرُ مقاولة الشحم محال . ولكن الغرض أن السَّمَن في الحيوان مما يحسّن قبيحه . كما أن العجف مما يقبح حسنه . فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة ، وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . انتهى . الثالثة : قال الرازي : إن قال قائل : لم قدم التعذيب على التوبة - في آخر الآية ؟ نقول : لما سمى التكليف أمانة ، والأمانة من حكمها اللازم أن الخائن يضمن ، وليس من حكمها اللازم أن الأمين الباذل جهده يستفيد أجرة ، فكان التعذيب على الخيانة كاللازم ، والأجر على الحفظ إحسان ، والعدل قبل الإحسان . الرابعة : ورد في تعظيم الأمانة عدة أحاديث . منها عن أبي هريرة مرفوعا : " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذيّ . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا : " أربع ، إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة " رواه الإمام أحمد والطبرانيّ . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، لمن سأل عن الساعة : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها ؟ يا رسول الله ! قال : إذا وسّد الأمر إلى غير أهله ، فانتظر الساعة " . الخامسة : قال ابن كثير : روى عبد الله بن المبارك في كتاب ( الزهد ) أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي . وقد ورد في ذلك حديث مرفوع عن بريدة : " من حلف بالأمانة فليس منا " ، تفرد به أبو داود . أي : لأن الحلف لا يكون إلا باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته . وأما بغير ذلك فمكروه أو حرام . كما تقرر في موضعه والله أعلم . السادسة : سبق لي أن كتبت في الآية شيئاً . في منتصف ربيع الأول سنة 1324هـ ، في قرية ضمّت حفلة من أهل العلم . فسأل بعض الناس عن تفسير الآية . ولم يكن ثمة تفسير فاستعنتُ بالله تعالى ، وقرأت السورة من أولها إلى آخرها مرات ثم كتبت ما تراه . أردت إثباته هنا تعزيزاً للمقام ، ونصه : في ختم السورة بهذه الآية من البدائع ما يسميه علماء البديع ( ردّ العجز على الصدر ) ذلك أن طليعة هذه السورة كانت في ذم المنافقين وقصّ مخازيهم ونواياهم السيئة ضد الرسول وأصحابه في غزوة الأحزاب ، وهي غزوة الخندق . أبان الحق تعالى أثر ما ذكر من الأمر بالتقوى وعدم إطاعة المنافقين ، وما كانوا يخوضون فيه من قصة التبّني ونحوها ، أنهم كانوا أعطوا العهود والمواثيق أنهم إن قاتلوا لا يفروا ، وذلك في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الأحزاب : 15 - 16 ] فلما خانوا أماناتهم بالفرار والتعويق لإخوانهم ، والتثبيط لهم ، وما كان من شنائعهم في تلك الغزوة ، بين الله تعالى في خاتمة السورة ، شأن الأمانة وعظم خطرها ، وأنها عند الله بمكان عظيم . وذلك لأن من أعطى من نفسه موثقا ، عاهد الله عليه فاطمأنت به النفوس ووثقت به وركنت إليه وأدرجته في عداد من يشدّ أزرها ، فإذا هو غادر خائن كاذب متلاعب ، يتخذ عهود الله هزؤا ولعبا ، فيخذل من وثق به ، ويمالئ العدوّ عليه ويثبط من يرجى منه نوع معونة ، وبوقع الأراجيف ليوهي العزائم ويضعف الهمم ، فتكثر القالة وترتبك العامة . فما أسوأ ما يأتي به وما أفظع ما أرتكب وما أعظم جريمته ! وجليّ أن عظم الجريمة بقدر عظم آثارها ، وما ذكر بعض من آثارها . ففي أي مرتبة تكون الخيانة ؟ لا جرم أنها في أحط المهاوي الدنيئة . كما أن مرتكبها في الدرك الأسفل من النار . فالأمانة المذكورة في الآية باعتبار سياقها وسباقها ، وهي الأمانة التي خان في تحملها المنافقون ، ونقضوا بها عهدهم في هذه الواقعة . وكان من آثارها السيء في المدينة وأهلها ما كان - وإن كان لفظها يعم ما ذكر وغيره ، والْإِنْسَاْن هنا ، المعنيّ به جنس المنافق الذي قصّ من نبئه ما قصّ . والقصد لومه على كونه تحمل ما تحمل ، ثم نقض ذلك عن عمد وقصد ، ظلما لنفسه وجهلا بالعاقبة وباللوم الذي يتبعه ، وبالعذاب الذي سيلقاه ، وبكون هذا الأمر أمراً ربّانيا وعزيمة إلهية ما هي بالهزل . والمراد بعرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، هو ظهور خطرها لهذه المكونات ، وفظاعة الخيانة فيها ، وإشفاق كلٍ مِن خطر تحملها . وإبائهن ذلك لو كن مما يعقلن مع أنهن أقوى أجساما وأعظم ثباتاً وأصبر على طوارئ الحدثان ، تخوفا من أن يطغين في أمرها أو يعصين في شأنها . وإن الإنسان ، مع ضعفه بالنسبة لهن ، حملها وما حفظها ولا رعاها . واجترأ مع ضعفه على ما أشفق منه ما هو أقوى منه . فما أظلمه وما أجهله ! والقصد رميه بالظلم والجهل . وجراءته على الخيانة وعدم مبالاته بما ترهب منه السماوات والأرض والجبال . فيا لله ما أطغاه ! فذكر هذه الأجرام الكبيرة تهويل لخطر الأمانة ، وأنهن لو عقلن لكان منهن ما كان . ونظير هذه الآية في ذكر هؤلاء الثلاثة قوله تعالى : { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [ مريم : 88 - 91 ] وحقا أن سبك المعنى المذكور في قالب هذا النظم البديع لمعجزة من معجزات التنزيل ، وخارق من خوارقه في باب البلاغة . فإن أسلوبه في إفراغ المعاني في أرق الألفاظ وأفخم التراكيب ، أسلوبٌ انفرد به عن كل كلام . وبه يعلم أن من بحث في كيفية العرض عليهن ، هل كان بإبداع عقل فيهن أو لا ، وفي تعيين زمانه وفي كيفية إبائهن وإشفاقهن ، وفي معنى لوم الإنسان ورميه بالظلم والجهل ، بعد ما عرضت عليه ، وأن ظاهره التخيير إلى غير ذلك - كله فلسفة لفظية ، ولَّدها عشاق الظواهر والألفاظ ، الولعون في الغلوّ بمفرداتها ، وصرف الوقت فيها جعل ذلك منتهى قصدهم ومبلغ علمهم . فضاع عليهم المعنى ولم يهتدوا إليه - ولن يجدوا إليه سبيلا ما دام هذا سبيلهم - والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .