Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 29-29)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } أي : ما كانت العقوبة إلا صيحة واحدة من السماء هلكوا بها { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } ميتون كالنار الخامدة ، رمزاً إلى أن الحيّ كالنار الساطعة في الحركة والالتهاب ، والميت كالرماد ، كما قال لبيد : @ وما المرء إلا كالشهابِ وضوئِهِ يَحُورُ رماداً بعد إذْ هو ساطِعُ @@ تنبيهات الأول : قال ابن كثير : روي عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وإن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى عليه السلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر عن أحد من متأخري المفسرين ، غيره . وفي ذلك نظر من وجوه : أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل ، لا من جهة المسيح عليه السلام ، كما قال تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ } [ يس : 14 ] ولو كان هؤلاء من الحواريين ، لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام . والله أعلم . ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا . الثاني : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح . ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللائي فيهن بطاركة ، وهن : القدس لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية لأنها أول بلدة أمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البطارقة والمطارنة والأساقفة والشمامسة والرهابين ، ثم رومية ؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأطده ، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرك من رومية إليها - كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم - كسعد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين - فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم . الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه وغير واحد من السلف ، أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة ، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم . بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ } [ القصص : 43 ] فعلى هذا يتعين أن أهل هذه القرية المذكورة في القرآن ، قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً ، أو تكون أنطاكية - إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة - مدينة أخرى غير المشهورة المعروفة ؛ فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ، ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام ابن كثير . وأقول : إن من محاسن التنزيل الكريم وبلاغته الخارقة ، هو الإيجاز في الأنباء التي يقصها ، والإشارة منها إلى روحها وسرها ، حرصاً على الثمرة من أول الأمر ، واقتصاراً على موضع الفائدة ، وبعداً عن مشرب القصّاص والمؤرخين ؛ لأن القصد من قصصه الاعتبار والذكرى ، وما من حاجة إلى تسمية تلك المبهمات كائنة ما كانت ، ثم إن المفسرين رحمهم الله عنوا بالبحث ، والأخذ والتلقي ، فكان من سلف منهم يَرَوْنَ فيما يَرَوْنَ أن من العلم تفصيل مجملات التنزيل وإبانة مبهماته ، حتى جعل ذلك فنّاً برأسه وألف فيه مؤلفات ، ولا بأس في التوسع من العلم والازدياد منه بأي طريقة كانت ، لاسيما وقد رفع عنا الحرج بالتحدث عن بني إسرائيل ، إلا أنه يؤاخذ من يجزم بتعيين مبهم ما ، إن كان جزمه من غير طريق القواطع ؛ فإن القاطع هو ما تواتر أو صحّ سنده إلى المعصوم ، صحة لا مغمز فيها ، وهذا مفقود في الأكثر ، ومنه بحثنا المذكور ؛ فإن تعيين أن البلدة أنطاكية وتسمية الرسل ، إنما روي موقوفاً ومنقطعاً ، وفي بعض إسناده متهمون ، ولذا قد يرد على من يقطع بذلك ما لا مخرج له منه ، فالمفسر أحسن أحواله أن يمشي مع التنزيل ، إجمالاً فيما أجمله ، وتفصيلاً فيما فصله ، ولا يأخذ من أيضاح مبهماته إلا بما قام عليه قاطع أو كان لا ينبذه العلم الصحيح ، وإلا فليعرض عن تسويد وجوه الصحف بذلك ، بل عن تشويهها . والذي حمل السلف على قص ما نحن فيه ، هو تلقيهم له عن مثل كعب ووهب ، وموافقة من في طبقتهما لهما فيه . هذا أولاً ، وثانياً : شهرة بلدة أنطاكية في ذلك العهد ، لاسيما وقد أسس فيها معبداً أحدُ رسل عيسى عليه السلام . ثالثاً : ما جرى في أنطاكية لما قدم ملك الرومان , وتهدد كل من أبى عبادة الأوثان بالقتل ، وكان في مقدمة الآبين رجل مقدم في المؤمنين ، فأراده على الشرك فأبى وجهر بالتوحيد ، فأرسله من أنطاكية موثقاً وأمر بأن يطعم للوحوش ، فألقى في رومية إلى أسدين كبيرين فابتلعاه ، ولما قدم لهما استبشر وتهلل لنيل الشهادة في سبيل الله . وكذلك يؤثر عن رجل مؤمن كان يدافع عن المؤمنين في عهد الرومانيين لغيرته وصلاحه , فطلب منه الحاكم أن يرتد فأبى وجهر بوجوب عبادة الإله الواحد , ونبذ عبادة من لا يضر ولا ينفع . فهدده بأن يضربه من الرأس إلى القدم . فأجاب بأنه مستبشر بنعمة الله وكرامته الأبدية . ثم أمر به الحاكم فقتل مع رفقته , والشواهد في هذا الباب لا تحصى ، معروفة لمن أعار نظره جانباً مما كتب في تواريخ مبدأ ظهور الأديان ، وما كان يلاقيه من أعدائه ومقاوميه ، فللقصة الكريمة هذه مصدقات لا تحصى . رابعاً : شهرة المرسلين برسل عيسى عليه السلام ، وكانوا انبثوا في البلاد لمحو الوثنية والكف عن الكبائر والشرور التي كانت عليها دولة الرومان وقتئذ . هذا وما ذكره ابن كثير من وقوف عذاب الاستئصال بعد نزول التوراة يحتاج إلى قاطع . وإلا فقد خربت كثير من البلاد الأثيمة بعدها ، وتدمرت بتسليط الله من شاء عليها ، والصيحةُ أعم من أن تكون صيحة سماوية ، أو صيحة أرضية ، وهي صيحة من سلط عليهم للانتقام منهم ، حتى أباد ملكهم وقهر صولتهم ومحا من الوجود سلطانهم ، وإن كان عذاب الصيحة ظاهره الأول . وبالجملة فنحن يكفينا من النبأ الاعتبار به وفهمه مجملاً ، وأما تعيينه بوقت ما ، وفئة ما ، فهو الذي ينشأ منه ما ينشأ ، وما بنا من حاجة إلى الزيادة عن الاعتبار ، وتخصيص ما لا قاطع عليه . الثاني : ذكر الرازي في قوله تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } [ يس : 14 ] لطيفة ، إن صح أن الرسل المنوه بهم هم رسل عيسى عليه السلام ، وهي أن إرساله لهم كإرساله تعالى ؛ لأنه بإذنه وأمره ، وبذلك تتمة التسلية للنبي صلوات الله عليه ، لصيرورتهم في حكم الرسل . ثم قال : وهذا يؤيد مسألة فقهية ؛ وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل ، وكيل الموكل لا وكيل الوكيل ، حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول . انتهى . الثالث : في قوله تعالى : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ } [ يس : 20 ] تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم كما فعل .