Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 108-113)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } أي : مثل ما تركنا على نوح ، كما تقدم بيانه وإعرابه { كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ } أي : على إبراهيم { وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ } أي : بتكثير الذرية وتسلسل النبوة فيهم ، وجعلهم ملوكاً ، وإيتائهم ما لم يؤت أحد { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } أي : في عمله { وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي : بالكفر والمعاصي { مُبِينٌ } أي : ظاهر الظلم . تنبيهات الأول : يروي المفسرون ههنا في قصة الذبح روايات منكرة لم يصحّ سندها ولا متنها ، بل ولم تحسن ، فهي معضلة تنتهي إلى السّدّيّ وكعب . والسدّيّ حاله معلوم في ضعف مروياته ، وكذلك كعب . قال ابن كثير رحمه الله : لما أسلم كعب الأحبار في الدولة العمرية ، جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً ، فربما استمع له عمر ، فترخص الناس في استماع ما عنده عنه ، غثها وسمينها ، وليس لهذه الأمة حاجة إلى حرف واحد مما عنده . انتهى . ولقد صدق رحمه الله ، ولذا لا نرى التزيد على أصل ما قص في التنزيل من الضروري له ، إلا إذا صح سنده ، أو اطمأن القلب به . وقد وَلِعَ الخطباء في دواوينهم برواية هذه القصة في خطبة الأضحى من طرقها الواهية عند المحدثين ، ويرونها ضربة لازب على ضعف سندها ، وكون متنها منكراً أيضاً أو موضوعاً ، ولما صنفتُ مجموعة الخطب حذفتُ هذه الرواية من خطبة الأضحى ككل مرويّ ضعيف في فضائل الشهور والأوقات ، واقتصرتُ على جياد الأخبار والآثار ، وذلك من فضل الله علينا فلا نحصي ثناء عليه . وأمثل ما روي في هذا النبأ من الآثار : ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً ، قال : لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة السلام إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ، ثم تلّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه السلام قميص أبيض ، فقال له : يا أبت ، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلصه ، فنودي من خلفه : أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين . قال ابن عباس : لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش . الثاني : قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في هذه الآية أن رؤيا الأنبياء وحي ، وجواز نسخ الفعل قبل التمكن ، وتقديم المشيئة في كل قول ، واستدل بعضهم بهذه القصة على أن من نذر ذبح ولده ، لزمه ذبح شاة . ثم قال السيوطيّ : فسَّر الذَّبح العظيم في الأحاديث والآثار بكبش ، فاستدل به المالكية على أن الغنم في التضحية أفضل من الإبل . انتهى . الثالث : استدل بالآية على أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه - كما ذكره الرازيّ - وذلك في باب الابتلاء . أي : ابتلاء المأمور في إخلاصه وصدقه ، فيما يشق على النفس تحمله . الرابع : يذكر كثير الخلافَ في الذبيح ، قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) : وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى من أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ؛ فإن فيه إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ( بكره ) ، وفي لفظ ( وحيده ) ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده . والذي غر أصحاب هذا القول إن في التوراة التي بأيديهم ( اذبح ابنك إسحاق ) قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ؛ لأنها تناقض قوله ( بكرك ) ( وحيدك ) ولكن يهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويختارونه دون العرب . ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة أنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَىٰ قَوْمِ لُوطٍ * وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 70 - 71 ] ، فمحال أن يبشرها بأنه يكون له ولد ثم يأمر بذبحه . ولا ريب أن يعقوب داخل في البشارة ، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ الواحد . وهذا ظاهر الكلام وسياقه . فإن قيل : لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحاق ، فكانت القراءة : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي : ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به ؛ لأن البشارة قول مخصوص : وهي أول خبر سارّ صادق . وقوله : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } جملة متضمنة بهذه القيود ، فيكون بشارة بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . أو لما كانت البشارة قولاً ، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول . كأن المعنى : وقلنا لها من وراء إسحاق يعقوب والقائل إذا قال : بشرت فلاناً بقدوم أخيه ، وثقله في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارة بالأمرين جميعاً . هذا مما لا يستريب ذو فهمٍ فيه البتة . ثم يضعف الجر أمر آخر ، وهو ضعف قولك : ( مررت بزيد ومن بعده عمرو ) ؛ لأن العاطف يقوم حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور : كما لا يفصل بين حرف الجار والمجرور ، ويدل عليه أنه سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه في هذه السورة ، قال : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، ثم قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ الصافات : 103 - 112 ] ، فهذا بشارة من الله له ، شكراً على صبره على ما أمر به . وهذا ظاهر جداً في أن المبشر به غير الأول . بل هو كالنص فيه . فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوّته ، أي : لما صبر الأب على ما أمر به ، وأسلم الولد لأمر الله ، جازاه الله على ذلك ، بأن أعطاه النبوة . قيل : البشارة وقعت على المجموع ، على ذاته ووجوده وأن يكون نبياً ؛ ولهذا ينصب : ( نبيّاً ) على الحال المقدر أي : مقدراً نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن يقع على الأصل ، ثم يخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة . هذا محال من الكلام . بل إذا وقعت البشارة على نبوته ، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى ، وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ؛ ولذلك جعلت القرابين يوم النحر ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار ، تذكيراً لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله . ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة ، دون إسحاق وأمه ؛ ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان النحر بمكة ، من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا ، ولو كان الذبح بالشام ، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم ، لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة . وأيضاً فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما ؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه ، ولما ذكر إسحاق سماه عليما فقال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [ الذرايات : 24 - 25 ] إلى أن قال : { قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } [ الذرايات : 28 ] ، وهذا إسحاق بلا ريب ؛ لأنه من امرأته وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل فمن السرية . وأيضاً فإنهما بشّرا به على الكبر واليأس من الولد . وهذا بخلاف إسماعيل فإنه ولد قبل ذلك . وأيضاً : فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده . وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلا . والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة وألا يشارك بينه وبين غيره فيها . فلما أخذ الولدُ شعبة من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره الجليل بذبح المحبوب . فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ؛ إذْ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس فيه ، فقد حصل المقصود ، فنسخ الأمر ، وفدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب . ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار ، إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ، ما يقتضي الأمر بذبحه . وهذا في غاية الظهور . وأيضاً : فإن سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة ، فإنها كانت جارية ، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة سارة . فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها ويسكنها في أرض مكة ، ليبرّد عن سارة حرارة الغيرة . وهذا من رحمته ورأفته . فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ، ويدع ابن الجارية بحاله هذا مع رحمة الله لها ، وإبعاد الضرر عنها وخيرته لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ؟ بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب الست على ولدها ، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتاً ، هذه وابنها منهم ، ويرى عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم ، إلى ذبح الولد ، آلت إلى ما آلت إليه ، من جعل آثارهما وموطئ أقدامهما مناسك لعبادة المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة . وهذا سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه ، أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره . قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَارِثِينَ } [ القصص : 5 ] ، { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الحديد : 21 ] ، انتهى . وقال السيوطيّ في ( الإكليل ) : واستدل بقوله تعالى بعد : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] من قال إن الذبيح إسماعيل ، وهو الذي رجحه جماعة ، واحتجوا له بأدلة . منها وصفه بالحلم وذكر البشارة بإسحاق بعده ، والبشارة بيعقوب من وراء إسحاق ، وغير ذلك ، وهي أمور ظنية لا قطعية ، ثم قال : وتأملت القرآن فوجدت فيه ما يقتضي القطع أو يقرب منه - ولم أر من سبقني إلى استنباطه - وهو أن البشارة وقعت مرتين ، مرة في قوله تعالى : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } [ الصافات : 99 - 102 ] ، فهذه الآية قاطعة في أن هذا المبشر به هو الذبيح . ومرة في قوله : { وَٱمْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] الآية . فقد صرح فيها أن المبشر به إسحاق ، ولم يكن بسؤال من إبراهيم . بل قالت امرأته : إنها عجوز ، وإنه شيخ ، وكان ذلك في الشام لما جاءت الملائكة إليه بسبب قوم لوط وهو في آخر أمره . أما البشارة الأولى لما انتقل من العراق إلى الشام ، حين كان سنه لا يستغرب فيه الولد ، ولذلك سأله . فعلمنا بذلك أنهما بشارتان في وقتين ، بغلامين : أحدهما بغير سؤال ، وهو إسحاق صريحاً . والثانية قبل ذلك بسؤال وهو غيره . فقطعنا بأنه إسماعيل وهو الذبيح . انتهى .