Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 105-109)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
روى الحافظ ابن مردويه من طريق العوفيّ عن ابن عباس : أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فَأَظَنَّ ( أي : اتهم ) بها رجلا من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده ، فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علماً ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه . فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرّأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا … } الآية ثم قال تعالى - للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب - { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ } . يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ، ثم قال عز وجل : { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً … } الآية . يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] يعني السارق والذين جادلوا عن السارق . قال ابن كثير : وهذا سياق غريب . وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدّيّ وابن زيد وغيرهم ( في هذه الآية ) أنها نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة . وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، ورواها عنه ، من طريقه ، أبو عيسى الترمذيّ في ( جامعه ) في كتاب التفسير ، عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بِشْر وبَشير ( قال أبو ذرّ الخشنيّ : بشير بن أبيرق ، كذا وقع هنا : بشير بفتح الباء ، وقال الدارقطنيّ : إنما هو بُشَيْر بضم الباء ) ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً ، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول : قال فلان كذا وكذا وقال فلان كذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ! ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث ، فقال : @ أو كلما قال الرجال قصيدة أضِمُوا وقالوا : ابن الأبيرق قالها ! @@ قال : وكانوا أهل بيت فاقة وحاجة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة ، التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار ، فقدمت ضافطة من الشام من بالدرمك ، ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، فأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له : درعان وسيفاهما وما يصلحهما ، فعُدِيَ عليه من تحت البيت ، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ! تعلَّمْ إنه قد عُدِي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذُهب بطعامنا وسلاحنا . قال : فتحسستُ في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى ، فيما نراه ، إلا على بعض طعامكم . قال : وقد كان بنو أبيرق قالوا : ونحن نسأل في الدار : والله ! ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل ، رجلاً منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع بذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال : والله ! ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيّنُنَّ السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ! ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال عمي : يا ابن أخي ! لو أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقلت : يا رسول الله ! إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنظرُ في ذلك " ، فلما سمع بذلك بنو أبيرق ، أتوا رجلاً منهم يقال له : أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا ، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة في غير بيّنة ولا ثَبَت ، قال قتادة : فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عمدتَ إلى أهل بيت ذُكر منه إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت ؟ " قال فرجعت ، ولوددتُ أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتيت عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي ! ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان : فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } يعني : بني أبيرق { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } أي : مما قلت لقتادة : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أي : بني أبيرق { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ } إلى قوله : { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] أي : إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَمَن يَكْسِبْ خَطِيۤئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 111 - 112 ] قولهم للبيد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } [ النساء : 113 ] يعني : أسيرا وأصحابه : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ النساء : 113 ] إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 114 ] . فلما نزل القرآن : آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة . قال قتادة : فلما أتيتُ عمي بالسلاح ، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولا ، فلما أتيته بالسلاح ، قال : يا أبن أخي ! هو في سبيل الله ، قال فعرفت أن إسلامه صحيحاً . فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيْد ، فأنزل الله فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 115 ] إلى قوله : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 116 ] ، فلما نزل على سلافة ، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت به فرمت به في الأبطح ، ثم قالت : أهديتَ إليّ شعر حسان ! ما كنت تأتيني بخير . وقال الترمذيّ : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحرانيّ ، وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً ، لم يذكروا فيه : عن أبيه عن جده . ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحرانيّ عن محمد بن سلمة به ، ببعضه ، ورواه ابن المنذر في ( تفسيره ) بسنده عن محمد بن سلمة ، فذكره بطوله . ورواه أبو الشيخ الأصفهانيّ في ( تفسيره ) بسنده عن محمد بن سلمة به ، ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إسرائيل . ورواه الحاكم في كتابه ( المستدرك ) بسنده عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه ، أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، كذا نقله ابن كثير . قال السيوطيّ في ( اللباب ) : وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال : عدا بشير بن الحارث على عِلَّيّة رفاعة بن زيد ، عم قتادة بن النعمان ، فنقبها من ظهرها وأخذ طعاماً له ودرعين بأداتهما ، فأتى قتادة النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فدعا بشيراً فسأله فأنكر ، ورمى بذلك لبيدَ بن سهل ، رجلاً من أهل الدار ذا حسب ونسب ، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ … } الآيات ، فلما نزل القرآن في بُشير وعثر عليه ، هرب إلى مكة مرتدّاً ، فنزل على سلافة بنت سعد ، فجعل يقع في النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي المسلمين ، فنزل فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } [ النساء : 115 ] الآية ، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع ، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة . انتهى . وأما إيضاح ألفاظ الآيات وثمراتها فنقول : قوله تعالى : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } أي : بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك ، سمي ذلك العلم بالرؤية ، لأن العلم اليقينيّ المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية ، في القوة والظهور . قال الزمخشريّ : وعن عمر رضي الله عنه : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، لكن ليجتهد رأيه ، لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ، لأن الله كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكلف . قلت : روى هذا الأثر البيهقي في ( المدخل ) وابن عبد البر ، بنحو ما ذكر . قال ابن الفرس : في هذه الآية إثبات الرأي والقياس ، وتعقبه السيوطيّ بما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : إياكم والرأي ، فإن الله تعالى قال لنبيه : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } ولم يقل : بما رأيت . ثم قال السيوطيّ : وقال غيره : يحتمل قوله : { بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } الوحي والاجتهادَ معاً . انتهى . وقال ابن كثير : احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة ؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار ، فليحملها أو ليذرها " . ورواه الإمام أحمد عنها أيضا بلفظ : " جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس بينهما بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إليّ ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته ( أو قد قال : لحجته ) من بعض ، فإني أقضيَ بينكم على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة " . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إذا قلتما ، فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل منكما صاحبه " " . وقد رواه أبو داود وزاد : " إني إنما أقضي بينكما برأيي ، فيما لم ينزل عليّ فيه " انتهى . قال السيوطيّ : وفي الآية الرد على من أجاز أن يكون الحاكم غير عالم ، لأن الله تعالى فوّض الحكم إلى الاجتهاد ، ومن لا علم عنده كيف يجتهد ؟ انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ } أي : لأجلهم والذبّ عنهم ، وهم طعمة و من يعينه من قومه على ما تقدم { خَصِيماً } أي : مخاصماً ، وفيه أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق . وقوله تعالى : { وَٱسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ } أي : مما قلت لقتادة ، كما تقدم مفسراً . قال الرازيّ : تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء ، وقالوا : لو لم يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب لما أمر بالاستغفار ، ثم أجاب عن ذلك بوجوه . وقال القاضي عياض في ( الشفا ) : إن تصرف الأنبياء عليهم السلام بأمور لم ينهوا عنها ولا أمروا بها ، ثم عوتبوا بسببها ، أو أتوها على وجه التأويل - إنما هي ذنوب بالإضافة إلى عليّ منصبهم وإلى كمال طاعتهم ، لا أنها كذنوب غيرهم ومعاصيهم ، وأطال في هذا المقام وأطاب ، ثم قال : وأيضاً ، فإن في التوبة والاستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء ، وهو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ } [ البقرة : 222 ] . انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } أي : يخونونها بالمعصية ، جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم ، كما جعلت ظلماً لها لرجوع ضررها إليهم . قال الرازيّ : واعلم أن في الآية تهديداً شديداً ، وذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة ، وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً ، فالله تعالى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب ، فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ، ثم يعينه على ذلك الظلم ، بل يحمله عليه ويرغّبه فيه أشد الترغيب ؟ ا . هـ . وإنما قيل للخائنين ( ويختانون ) مع أن الخائن واحد ، لأن المراد به هو ومن عاونه من قومه ، وهم يعلمون أنه سارق ، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناوله وكل من خانه خيانته ، كما أنه إنما ذكر بلفظ المبالغة في قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً } لأنه تعالى علم منه أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم ، ويدل له أنه هرب إلى مكة وارتدّ ، كما أسلفنا ، قيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لهما أخوات ، وعن عمر رضي الله عنه ، أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبتِ ، إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة . وقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ } أي : يستترون حياءً منهم وخوفاً من ضررهم { وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ } فلا يستحيون منه : { وَهُوَ مَعَهُمْ } أي : وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليهم خافٍ من سرهم . قال الزمخشريّ : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم ، إن كانوا مؤمنين ، أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح . وقوله تعالى : { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ } أي : يدبرون ويزوّرون الحلف الكاذب ورمي البريء وشهادة الزور . وقوله تعالى : { هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ … } ، الآية . المجادلة : أشد المخاصمة ، والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن السارق وقومه في الدنيا ، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه ؟ وقوله تعالى : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه . قال بعض مفسري الزيدية : ثمرة هذه الآيات وجوب الحكم من غير محاباة ولا ميل ، والنهي عن التعصب والمجادلة عن كل خائن وعاص ، ويدل تقييد النهي عن الجدل بالذين يختانون أنفسهم ، على إباحة المجادلة . انتهى . واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب ، أتبعه بالدعوة إلى التوبة بقوله سبحانه : { وَمَن يَعْمَلْ سُوۤءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ … } .