Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 115-115)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } أي : يخالفه ويعاديه { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } أي : اتضح له الحق { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل ، وهو الدين القيم { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ } أي : نجعله والياً مرجحاً ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فزينه له تزين الكفر على الكفرة ، استدراجاً له ليكون دليلاً على شدة العقوبة في الآخرة ، كما قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] وقال سبحانه : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] ، { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } أي : ندخله إياها { وَسَآءَتْ مَصِيراً } وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ … } [ الصافات : 22 ] ، وقال تعالى : { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 53 ] . قال الإمام ابن كثير : قوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً ، فإنه قد ضمنت لهم العصمة ، في اجتماعهم من الخطأ ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عوّل عليه الشافعيّ رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته ، هذه الآية الكريمة ، بعد الترويّ والفكر الطويل ، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك . انتهى . وقال بعض مفسريّ الزيدية : الآية دلت على أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم كبيرة ، وقد تبلغ إلى الكفر ، ودلت على أن الجهل عذر ، لقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ } ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة ، وأنه دليل كالكتاب والسنة . لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيّاً ، لا آحاديّاً . انتهى . وقال المهايميّ : في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع ، فهو إما لحرمة أحدهما وهو باطل ، إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه ، أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضاً باطل ، لأن مشاقة الرسول حرام وإن لم يضم إليها غيرها ، أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب . انتهى . ونقل الخفاجيّ : قصة استدلال الشافعيّ من هذه الآية عن الإمام المزنيّ قال : كنت عند الشافعيّ يوماً ، فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا ، فلما رآه ذا مهابة استوى جالساً ، وكان مستندا لأسطوانة ، فاستوى وسوى ثيابه ، فقال له : ما الحجة في دين الله ؟ قال : كتابه قال : وماذا ؟ قال : سنة نبيه ، قال : وماذا ؟ قال : اتفاق الأمة ، قال : من أين هذا الأخير ؟ أهو في كتاب الله ؟ فتدبر ساعة ساكتاً ، فقال له الشيخ : أجّلتك ثلاثة أيام بلياليهن ، فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس . فمكث ثلاثة أيام لا يخرج . وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر ، وقد تغير لونه ، فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس ، وقال : حاجتي ، فقال : نعم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله عز وجل : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } - إلى آخر الآية ، لَمْ يُصْله جهنم ، على خلاف المؤمنين ، إلا واتبّاعهم فرض ، قال : صدقت ، وقام وذهب . وروي عنه أنه قال : قرأت القرآن في يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات ، حتى ظفرت بها . وأورد الراغب عليه ، أنه لا حجة فيها على ما ذكره ، بأن كل موصوف علق به حكم فالأمر باتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف ، فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته ، فكذا سبيل المؤمنين ، يعني به سبيلهم في الإيمان ، لا غير ، فلا دلالة في الآية على اتباعهم في غيره . ورُدَّ بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول ، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف ، تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضاً ، فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه ، فسبيلُ المؤمنين ، وإن فسر بما هم عليه من الدين ، يعمّ الأصول والفروع ، الكل والبعض ، على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط ، لا على المجموع ، للقطع بأن مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد ، معنيٌّ على أن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين ، لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل ، البتة . انتهى . ورأيت للإمام تقيّ الدين ابن تيمية في كتابه ( الفرقان بين الحق والباطل ) مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع ، أجال فيها جواد قلمه وأجاد ، وأطال وأطاب ، قال رحمه الله : ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه ، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان ، فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بيّن ذلك ، وقد قال تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] . وقال تعالى : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف : 111 ] ، وقال تعالى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل : 89 ] ، وقال تعالى : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ الشورى : 10 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [ التوبة : 115 ] ، فقد بيّن للمسلمين جميع ما يتقونه كما قال : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا ٱضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] ، وقال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، وهو الرد إلى كتاب الله ، أو إلى سنة الرسول ، بعد موته . وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ } شرط ، والفعل نكرة في سياق الشرط ، فأي شيء تنازعوا فيه ردُّوه إلى الله والرسول ، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلاً للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلام نحو هذا ، والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين ، وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق ، لا تجتمع الأمة على ضلالة ، وكذلك القياس الصحيح حق ، فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب ، والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل ، وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك ، والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح ، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل ، وبيّن بالقياس الصحيح ، وهي الأمثال المضروبة ، ما بينه من الحق ، لكن القياس الصحيح يطابق النص ، فإن الميزان يطابق الكتاب ، والله أمر نبيّه أن يحكم بالعدل ، فهو أنزل الكتاب ، وإنما أنزل الكتاب بالعدل ، قال تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 49 ] . { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } [ المائدة : 42 ] . وأما إجماع الأمة فهو حق ، لا تجتمع الأمة ، ولله الحمد ، على ضلالة ، كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة ، فقال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [ آل عمران : 110 ] ، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ، فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، والوسط العدل الخيار . وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في الصحيح " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً ، فقال : " وجبت " . ثم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرّاً ، فقال : " وجبت " . قالوا : يا رسول الله ! ما قولك : " وجبت ؟ " قال : " هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً ، فقلت : وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرّاً ، فقلت : وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض " " . فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل ، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به ، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ، ولو كان يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . وقال تعالى : { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [ لقمان : 15 ] ، والأمة منيبة إلى ربها فيجب اتباع سبيلها وقال تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] ، فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة ، فدلَّ على أن متابعتهم عامل بما يرضي الله ، والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل ، وقال تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } والشافعيّ ، رضي الله عنه ، لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع ، كما كان يسمع هو وغيره من مالك ، ذكر ذلك عن عمر بن عبد العزيز ، والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين ، مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، مستحق للوعيد ، ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده ، فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره ، وهنا للناس ثلاثة أقوال : قيل : اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية . وقيل : بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم ، فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم . وقيل : بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية . لكن هذا لا يقتضي مفارقته للأول بل قد يكون مستلزماً له ، فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو نفس الأمر مشاقّ للرسول . وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين ، وهذا كما في طاعة الله والرسول ، فإن طاعة الله واجبة . وطاعة الرسول واجبة ، وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم ، وهما متلازمان ، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني " . ثم قال تقيّ الدين رحمه الله ( بعد ثلاثة أوراق ) : ومن الناس من يقول : إنها لا تدل على مورد النزاع ، فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين ، وهذا لا نزاع فيه ، أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين ، وهي متابعة الرسول ، وهذا لا نزاع فيه ، أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة ، وهذا لا نزاع فيه ، فهذا ونحوه قول من يقول : لا تدل على محل النزاع ، وآخرون يقولون : بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقاً ، وتكلفوا لذلك ما تكلفوه ، كما قد عرف كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية ، والقول الثالث الوسط : إنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ، ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، وهو يدل على ذم كلٍ من هذا وهذا ، كما تقدم ، لكن لا ينفي تلازمهما ، كما ذكر في طاعة الله والرسول ، وحينئذ يقول : الذم إما أن يكون حقّاً لمشاقة الرسول فقط ، أو باتباع غير سبيلهم فقط ، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما ، بل بهما إذا اجتمعا ، أو لحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر ، أو بكل منهما لكونه مستلزماً للآخر ، والأوَّلاَنِ باطلان ، لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط ، كان ذكر الآخر ضائعاً لا فائدة فيه ، وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعاً ، فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه ، ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية ، فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع ، بقي القسم الآخر ، وهو أن كلاًّ من الوصفين يقتضي الوعيد ، لأنه مستلزم للآخر ، كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام ، فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ، ومثله قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 136 ] فإن الكفر بكل واحد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره ، فمن كفر بالله كفر بالجميع ، ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل ، فكان كافراً بالله ، إذ كذب رسله وكتبه ، وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل ، فكان كافراً ، وكذلك قوله : { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ آل عمران : 71 ] ذمهم على الوصفين ، وكل منهما مقتض للذم ، وهما متلازمان ، ولهذا نهى عنهما جميعاً في قوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 42 ] فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به ، فغلط به ، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل ، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق ، فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ، من شَاقهُ ، فقد اتبع غير سبيلهم ، وهذا ظاهر ، ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضاً فإنه قد جعل له مدخلاً في الوعيد ، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم ، فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعاً ، والآية توجب ذم ذلك ، وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول ، قلنا : لأنهما متلازمان ، وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصاً عن الرسول ، فالمخالف لهم مخالف للرسول . كما أن المخالف للرسول مخالف لله ، ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه الرسول قد بينه الرسول ، وهذا هو الصواب ، فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ، ويعلم الإجماع فيستدل به ، كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص ، وهو دليل ثان مع النص ، كالأمثال المضروبة في القرآن ، وكذلك الإجماع دليل آخر ، كما يقال : قد دل ذلك الكتاب والسنة والإجماع . وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها . فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة ، وما دل عليه القرآن فعن الرسول أُخِذ ، فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ، ولا توجد مسالة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص ، وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة ، وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية ، لا سيما قريش ، فإن الأغلب كان عليهم التجارة ، وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة . والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره ، فلما جاء الإسلام أقرَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك ، والسنة قوله وفعله وإقراره ، فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة ، والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ، ويعتمد عليه الفقهاء ، لما أُرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا ، وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصّهما بذلك دون سائر الجيش ، فقال له أحدهما : لو خسر المال لكان علينا ، فكيف يكون الربح وعلينا الضمان ؟ فقال له بعض الصحابة : اجعله مضاربة ، فجعله مضاربة . وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم ، والعهد بالرسول قريب ، لم يحدث بعده ، فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول ، كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة ، وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص ، لكن كان النص عند غيرهم ، وابن جرير وطائفة يقولون : لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول ، مع قولهم بصحة القياس ، ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى ، كما نقل الأخبار ، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة ، وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة ، كما أنه قد يحتج بقياس ، وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع ، وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم ، كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] وقال ابن مسعود : سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى ، أي : بعد البقرة . وقوله : { أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } يقتضي انحصار الأجل في ذلك ، فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها ، وعليّ وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين ، وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود ، وكذلك ، لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها هل لها مهر المثل ، أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ، ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك ، وقد خالفه عليّ وزيد وغيرهما ، فقالوا : لا مهر لها ، فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ، ولا يُعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها ، بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص ، كالمتوفى عنها الحامل ، هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها ، والآخرون قالوا : إنما تدخل في آية الحمل فقط ، وإن آية الشهور في غير الحامل ، كما أن آية القروء في غير الحامل ، وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يميناً بقوله : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 1 - 2 ] . وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى ، احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية ، وأولئك قالوا : بل هي لهما ، ودلالات النصوص قد تكون خفية ، فخص الله بفهمها بعض الناس ، كما قال عليّ : إلاَّ فهما يؤتيه الله عبداً في كتابه ، وقد يكون النص بيّناً ويذهل المجتهد عنه ، كتيمم الجنب ، فإنه بيّن في القرآن في آيتين ، ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر : ما درى عبد الله ما يقول ، إلا أنه قال : لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمم ، وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر : إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } [ الطلاق : 1 ] وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة ؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [ البقرة : 196 ] ، واحتج بهذه الآية من منع الفسخ ، وآخرون يقولون : إنما أمر بالإتمام فقط ، وكذلك أمر الشارع أن يتم ، وكذلك في الفسخ قالوا : من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها ، أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه فإنه شرع صلى الله عليه وسلم أصحابه عام حجة الوداع ، وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله : { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [ النساء : 43 ، المائدة : 6 ] ، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه ، وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفيّ ، فهذا ما أعرفه ، والجدُّ ، لما قال أكثرهم : إنه أب ، استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله : { كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعراف : 27 ] ، وقال ابن عباس : لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمى أبا الأب جداً لما قالت : { وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا } [ الجن : 3 ] ، نقول : إنما هو أب ، لكن أب أبعد من أب . وقد روي عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس ، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقاً فقط غلط ، ومن ادعى أن المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط ، بل كان كل منهم يتلكم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها ، والدلائل الصحيحة لا تتناقض ، لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء ، وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين ، كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين ، فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول ، وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله ما يستدلون به على مرادهم ، ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس ، ومن قال من المتأخرين : إن الإجماع مستند معظم الشريعة ، فقد أخبر عن حاله ، فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك ، وهذا كقولهم : إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها ، فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه : إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها ، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام ، حدثت جميع أجناس الأعمال ، فتكلموا فيها بالكتاب والسنة ، وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة ، والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه ، إذ هم أهل الإجماع ، فلا إجماع قبلهم ، لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح : اقض بما في كتاب الله ، فإن لم تجد ، فبما في سنة رسول الله ، فإن لم تجد ، فبما قضى به الصالحون قبلك ، وفي رواية : فبما أجمع عليه الناس . فقدم عمر الكتابّ ثم السُّنةَ : وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر ، قدّم الكتاب ثم السنة ، ثم الإجماع ، وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر ، لقوله : " اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي : أبي بكر وعمر " وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس ، وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء ، وهذا هو الصواب ، ولكن طائفة من المتأخرين قالوا : يبدأ المجتهد ينظر أولاً في الإجماع ، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره ، وإن وجد نصّاً خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه ، وقال بعضهم : الإجماع نسخه . والصواب طريقة السلف ، وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ ، فأما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة ، وحفظت النص المنسوخ ، فهذا لا يوجد قط ، وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه ، وإضاعة ما أمرت باتباعه ، وهي معصومة عن ذلك ، ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيراً أو غالباً ، فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين ؟ بخلاف النصوص ، فإن معرفتها ممكنة متيسرة ، وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أوَّلاً ، لأن السنة لا تنسخ الكتاب ، فلا يكون في القرآن شيء منسوخا بالسنة ، بل إن كان فيه منسوخ ، كان في القرآن ناسخه ، فلا يقدم غير القرآن عليه ، ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة ، ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته ، لا ينسخ السنةَ إجماع ولا غيره ، ولا تعارَض السنةُ بإجماع ، وأكثر ألفاظ الآثار ، فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة ، مع أنه فيها ، وكذلك في القرآن ، فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة ، وإذا كان في السنة لم يكن ما فيه السنة معارضاً لما في القرآن ، وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتاباً ولا سنة . انتهى كلامه قدس الله روحه .