Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 164-164)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي : في السور المكية { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي : لم نسمهم لك في القرآن ، وقد أحصى بعض المدققين أنبياء اليهود والنصارى ورسلهم فوجد عددهم لا يتجاوز الخمسين . روي في عدتهم أحاديث تُكُلِّم في أسانيدها ، منها حديث أبي ذر : " إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر " ، صححه ابن حبان ، وخالفه ابن الجوزيّ فذكره في ( موضوعاته ) واتهم به إبراهيم بن هاشم ، وقد تكلم فيه غير واحد { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة ، لأن تأكيد { كَلَّمَ } بالمصدر يدلّ على تحقيق الكلام ، وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك ، لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر ، فلا يقال : أراد الحائط يسقط إرادة ، وهذا رد على من يقول : إن الله خلق كلاماً في محلٍ ، فسمع موسى ذلك الكلام . قال الفراء : العرب تسمي كل ما يوصل إلى الإنسان كلاماً ، بأي طريق وصل ، لكن لا تحققه بالمصدر . وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام . فدل قوله تعالى : { تَكْلِيماً } على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة . قال بعضهم : كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء ، فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحاً في نبوة من أنزل عليه كتابه منجماً من الأنبياء ، كذا في ( اللباب ) . تنبيه يحسن في هذا المقام إيراد عقيدة السلف الكرام في مسألة الكلام ، فإنها من أعظم مسائل الدين ، وقد تحيرت فيها آراء أهل الأهواء من المتقدمين والمتأخرين ، واضطربت فيها الأقوال ، وكثرت بسببها الأهوال ، وأثارت فتنا وجلبت محناً ، وكم سجنت إماما ، وبكت أقواماً ، وتشعبت فيها المذاهب ، واختلفت فيها المشارب ، ولم يثبت إلا قول أهل السنة والجماعة ، المقتفين لأثر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، فنقول : قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية عليه رحمة الرحيم السلام ، في كتابه إلى جماعة العارف عدي بن مسافر ما نصه : فصل ومن ذلك الاقتصاد في السنة واتباعها كما جاءت بلا زيادة ولا نقصان ، مثل الكلام في القرآن وسائر الصفات ، فإن مذهب سلف الأمة وأهل السنة : أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود ، هكذا قال غير واحد من السلف . روي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وكان من التابعين الأعيان قال : ما زلت أسمع الناس يقولون ذلك ، القرآن الذي أنزله الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم ، وهو كلام الله لا كلام غيره ، وإن تلاه العباد وبلّغوه بحركاتهم وأصواتهم ، فإن الكلام لمن قاله مبتدئاً ، لا لمن قاله مبلغاً مؤدياً ، قال الله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] وهذا القرآن في المصاحف كما قال تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 - 22 ] ، وقال تعالى : { يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } [ البينة : 2 - 3 ] ، وقال : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [ الواقعة : 77 - 78 ] . والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه . كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله ، وإعرابُ الحروف هو من تمام الحروف ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات " وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : حفظ إعراب القرآن أحبُّ إلينا من حفظ بعض حروفه . ثم قال رحمه الله : والتصديق بما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : أن الله يتكلم بصوت وينادي آدم عليه السلام بصوت ، إلى أمثال ذلك من الأحاديث ، فهذه الجملة كان عليها سلف الأمة وأئمة السنة . وقال أئمة السنة : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، حيث تلى ، وحيث كتب ، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن إنها مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل ، ولا يقال غير مخلوقة ، لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد ، ولم يقل قط أحد من أئمة السلف : إن أصوات العباد بالقرآن قديمة ، بل أنكروا على من قال ( لفط العبد بالقرآن مخلوق ) وأما من قال : إن المداد قديم - فهذا من أجهل الناس وأبعدهم عن السنة ، قال الله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] ، فأخبر أن المداد يكتب به كلماته ، وكذلك من قال ( ليس القرآن في المصحف ، وإنما في المصحف مداد وورق وحكاية وعبارة ) فهو مبتدع ضال ، بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين ، والكلام في المصحف على الوجه الذي يعرفه الناس ، له خاصة يمتاز بها عن سائر الأشياء ، وكذلك من زاد على السنة فقال : إن ألفاظ العباد وأصواتهم قديمة ، فهو مبتدع ضال ، كمن قال : إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت - فإنه أيضاً مبتدع منكر للسنة ، وكذلك من زاد وقال : إن المداد قديم - فهو ضال ، كمن قال : ليس في المصاحف كلام الله ، وأما من زاد على ذلك من الجهال الذين يقولون : إن الورق والجلد والوتد وقطعة من الحائط ، كلام الله - فهو بمنزلة من يقول : ما تكلم الله بالقرآن ولا هو كلامه ، هذا الغلو من جانب الإثبات يقابل التكذيب من جانب النفي ، وكلاهما خارج عن السنة والجماعة . وكذلك إفراد الكلام في النقطة والشكلة بدعة ، نفياً وإثباتاً ، وإنما حدثت هذه البدعة من مائة سنة أو أكثر بقليل . فإن من قال : إن المداد الذي تنقط به الحروف وتشكل به قديم - فهو ضال جاهل . ومن قال : إن إعراب حروف القرآن ليس من القرآن - فهو ضال مبتدع . بل الواجب أن يقال : هذا القرآن العربيّ هو كلام الله ، وقد دخل في ذلك حروفه بإعرابها ، كما دخلت معانيه ، ويقال : وما بين اللوحين جميعه كلام الله ، فإن كان المصحف منقوطاً مشكولاً أطلق على ما بين اللوحين جميعه أنه كلام الله ، وإن كان غير منقوط ولا مشكول ، كالمصاحف القديمة التي كتبها الصحابة ، كان أيضاً ما بين اللوحين هو كلام الله ، فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث ونزاع لفظيّ لا حقيقة له ، ولا يجوز أن يحدث في الدين ما ليس منه . وسئل رحمه الله تعالى : عن رجلين تباحثا فقال أحدهما : القرآن حرف وصوت ، وقال الآخر : ليس هو بحرف ولا صوت ، وقال أحدهما : النقط التي في المصحف والشكل من القرآن ، وقال الآخر : ليس ذلك من القرآن ، فما الصواب في ذلك ؟ فأجاب رضي الله عنه : الحمد لله رب العالمين ، هذه المسألة يتنازع فيها كثير من الناس ، ويخلطون الحق بالباطل ، فالذي قال : إن القرآن حرف وصوت ، إن أراد بذلك أن هذا القرآن الذي يُقرأ للمسلمين هو كلام الله ، الذي نزل به الروح الأمين على محمد خاتم النبيين والمرسلين ، وأن جبرئيل سمعه من الله ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرئيل ، والمسلمون سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } [ النحل : 102 ] ، وقال : { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] - فقد أصاب في ذلك ، فإن هذا مذهب من سلف الأمة وأئمتها ، والدلائل على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع . ومن قال : إن القرآن العربيّ لم يتكلم الله به ، وإنما هو كلام جبرئيل أو غيره ، عبّر به عن المعنى القائم بذات الله ، كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما - فهو قول باطل من وجوه كثيرة . فإن هؤلاء يقولون : إنه معنى واحد قائم بالذات ، وإن معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحد ، وإنه لا يتعدد ولا يتبعض ، وإنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وبالعبرانية كان توراة ، وبالسريانية كان إنجيلاً ، فيجعلون معنى آية الكرسي ، وآية الدّين ، وقل هو الله أحد ، وتبت يدا أبي لهب ، والتوراة والإنجيل وغيرهما - معنى واحداً ، وهذا قول فاسد بالعقل والشرع ، وهو قول أحدثه ابن كلاب ، لم يسبقه إليه غيره من السلف ، وإن أراد قائل بالحرف والصوت ، أن الأصوات المسموعة من القراء ، والمداد الذي في المصاحف قديم أزليّ - أخطأ وابتدع ، وقال ما يخالف العقل والشرع ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " زينوا القرآن بأصواتكم " ، فبين أن الصوت صوت القارئ ، والكلام كلام الباري ، كما قال تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] . فالقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله لا كلام غيره ، كما ذكر الله ذلك . وفي السنن عن جابر بن عبد الله قال أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال : " ألا رجلٌ يحملني إلى قومه ؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " قالوا لأبي بكر الصديق لما قرأ عليهم : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } [ الروم : 1 - 2 ] : هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ، ولكنه كلام الله تعالى . والناس إذا بلغوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : " إنما الأعمال بالنيات " - يعلمون أن الحديث الذي يسمعونه حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم ، تكلم به بصوته وبحروفه ومعانيه ، والمحدث بلغه عنه بصوت نفسه لا بصوت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله ، إذا بلَّغته الرسل عنه ، وقَرَأهُ الناس بأصواتهم ، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه بصوت نفسه ، ونادى موسى بصوت نفسه ، كما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، وصوت العبد ليس هو صوت الرب ، ولا مثل صورته ، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . وقد نص أئمة الإسلام ، أحمد ومن قبله من الأئمة على ما نطق به الكتاب والسنة : من أن الله ينادي بصوت ، وإن القرآن كلامه تكلم بحروف وصوت ، ليس منه شيء كلاماً لغيره ، لا جبرئيل ولا غيره ، وأن العباد يقولونه بأصوات أنفسهم وأفعالهم ، فالصوت المسموع من العبد صوت القارئ ، والكلام كلام الباري ، وكثير من الخائضين في هذه المسألة لا يميز بين صوت العبد وصوت الرب ، بل يجعل هذا هو هذا ، فينفيهما جميعاً ، ويثبتهما جميعاً ، فإذا نفى الحرف والصوت نفى أن يكون القرآن العربيّ كلام الله ، وأن يكون مناديا لعباده بصوته ، وأن يكون القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله ، كما نفى أن يكون صوت العبد صفة لله ، ثم جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً ، لا فرق بين القديم والحادث ، وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني ، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل ، حيث جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداً . لا فرق بين القديم والحادث . وهذا مصيب في هذا الفرق دون ذاك الثاني ، الذي فيه نوع من الإلحاد والتعطيل . حيث جعل كلام الله المتنوع شيئاً واحداًلا حقيقة له عند التحقيق ، وإذا أثبت ، جَعَلَ صوت الرب هو صوت العبد ، أو سكت عن التمييز بينهما ، مع قوله : إن الحروف متعاقبة في الوجود ، مقترنة في الذات ، قديمة أزلية الأعيان ، فجعل عين صفة الرب تحل في العبد ، ويتحد بصفته ، فقال في نوع من الحلول والاتحاد يفضي إلى نوع من التعطيل ، وقد علم أن نفي الفرق والمباينة ، بين الخالق وصفاته ، والمخلوق وصفاته ، خطأ وضلال ، لم يذهب إليه أحد من سلف الأئمة وأئمتها ، بل هم متفقون على التمييز بين صوت الرب وصوت العبد ، ومتفقون أن الله تكلم بالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، حروفه ومعانيه ، وأنه ينادي عباده بصوته ، ومتفقون على أن الأصوات المسموعة من القراء أصوات العباد ، وعلى أنه ليس بشيء من أصوات العباد ، ولا مداد المصاحف ، قديماً ، بل القرآن مكتوب في مصاحف المسلمين ، مقروء بألسنتهم ، محفوظ بقلوبهم ، وهو كلام الله ، والصحابة كتبوا المصاحف لما كتبوها بغير شكل ولا نقط ، لأنهم كانوا عرباً لا يلحنون ، ثم لما حدث اللحن نقط الناس المصاحف وشكلوها ، فإن كتبت بلا شكل ولا نقط جاز ، وإن كتبت بنقط وشكل جاز ، ولم يكره ، في أظهر قولي العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وحكم النقط والشكل حكم الحروف فإن الشكل يبين إعراب القرآن ، كما يبين النقط الحروف ، والمدادُ الذي يكتب به الحروف ويكتب به الشكل والنقط ، مخلوق ، وكلام الله العربيّ الذي أنزله وكتب في المصاحف بالشكل والنقط ، وبغير شكل ونقط ، ليس بمخلوق ، وحكم الإعراب حكم الحروف ، لكن الإعراب لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المنقوطة ، والشكل والنقط لا يستقل بنفسه ، بل هو تابع للحروف المرسومة ، فلهذا لا يحتاج لتجريدهما وإفرادهما بالكلام ، بل القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله : معانيه وحروفه وإعرابه ، والله تكلم بالقرآن العربيّ الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، والناس يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم ، والمكتوب في مصاحف المسلمين هو كلام الله وهو القرآن العربيّ الذي أنزل على نبيه ، سواء كتب بشكل ونقط ، أو بغير شكل ونقط ، والمداد الذي كتب به القرآن ليس بقديم بل هو مخلوق ، والقرآن الذي كتب في المصحف بالمداد هو كلام الله منزل ، غير مخلوق ، والمصاحف يجب احترامها باتفاق المسلمين ، لأن كلام الله مكتوب فيها ، واحترام النقط والشكل ، إذا كتب المصحف مشكلاً منقوطاً ، كاحترام الحروف باتفاق علماء المسلمين ، كما أن حرمة إعراب القرآن كحرمة حروفه المنقوطة باتفاق المسلمين ، ولهذا قال أبو بكر وعمر : حفظ إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه ، والله تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه ، فجميعه كلام الله . فلا يقال : بعضه كلام الله وبعضه ليس بكلام الله ، وهو سبحانه نادى موسى ، بصوت سمعه موسى ، فإنه قد أخبر أنه نادى موسى في غير موضع من القرآن ، كما قال تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } [ النازعات : 15 - 16 ] ، والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة ، وقد قال تعالى : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [ النساء : 163 - 164 ] ، فقد فرق الله بين إيحائه إلى النبيين وبين تكليمه لموسى ، فمن قال : إن موسى لم يسمع صوتاً ، بل ألهم معناه - لم يفرق بين موسى وغيره ، وقد قال تعالى : { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآء } [ الشورى : 51 ] ، فقد فرق بين الإيحاء والتكلم من وراء حجاب ، كما كلم الله موسى ، فمن سوّى بين هذا وهذا ، كان ضالاً ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره : لم يزل الله متكلماً إذا شاء ، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته ، يتكلم بشيء بعد شيء ، كما قال تعالى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يٰمُوسَىٰ } [ طه : 11 ] فناداه حين أتاها ولم يناده قبل ذلك ، وقال تعالى : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } [ الأعراف : 22 ] ، فهو سبحانه ناداهما حين ذاقا الشجرة ، ولم ينادهما قبل ذلك ، وكذلك قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } [ الأعراف : 11 ] ، بعد أن خلق آدم وصوّره ، ولم يأمرهم قبل ذلك ، وكذا قوله : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، فأخبر أنه قال له : { كُن فَيَكُونُ } ، بعد أن خلقه من تراب ، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير ، يخبر أنه تكلم في وقت معين ، ونادى في وقت معين ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ " أنه لما خرج إلى الصفا قرأ قوله تعالى : { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ، قال : " نبدأ بما بدأ الله به " ، فأخبر أن الله بدأ بالصفا قبل المروة . والسلف اتفقوا على أن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، فظن بعض الناس أن مرادهم أنه قديم العين . ثم قالت طائفة : هو معنى واحد ، وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي ، والخبر بكل مُخْبَر ، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً ، وهذا القول مخالف للشرع والعقل . وقالت طائفة : هو حروف وأصوات قديمة الأعيان ، لازمة لذات الله ، لم تزل لازمة لذاته ، وأن الباء والسين والميم موجودة مقترنة بعضها ببعض معاً ، أزلاً وأبداً ، لم تزل ولا تزال ، لم يسبق منها شيء شيئاً ، وهذا أيضاً مخالف للشرع والعقل . وقالت طائفة : إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإنه في الأزل كان متكلماً بالنداء الذي سمعه موسى ، وإنما تجدد استماع موسى ، لا أنه ناداه حين أتى الوادي المقدس ، بل ناداه قبل ذلك بما لا يتناهى ، ولكن تلك الساعة سمع النداء ، وهؤلاء وافقوا الذين قالوا : إن القرآن مخلوق ، في أصل قولهم ، فإن أصل قولهم : إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية ، فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته ، وقالوا : هذه حوادث ، والرب لا تقوم به الحوادث ، فخالفوا صحيح المنقول وصريح المعقول . واعتقدوا أنهم بهذا يردون على الفلاسفة ويثبتون حدوث العالم ، وأخطأوا في ذلك ، فلا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا ، وادعوا أن الرب لم يكن قادراً في الأزل على كلام يتكلم به ، ولا فعل يفعله ، وأنه صار قادراً بعد أن لم يكن قادراً ، بغير أمر حدث ، أو يغيّرون العبارة فيقولون : لم يزل قادراً ، لكن يقولون : إن المقدور كان ممتنعاً ، وإن الفعل صار ممكناً له ، بعد أن صار ممتنعاً عليه ، من غير تجدد شيء ، وقد يعبرون عن ذلك بأن يقولوا : كان قادراً في الأزل على ما يمكن ، فيما لا يزال على ما لا يمكن في الأزل ، فيجمعون بين النقيضين ، حيث يثبتونه قادراً في حال كون المقدور عليه ممتنعاً عندهم ، ولم يفرقوا بين نوع الكلام والفعل ، وبين عينه كما لم يفرق الفلاسفة بين هذا وهذا ، بل الفلاسفة ادعوا أن مفعوله المعين قديم بقدمه ، فضلوا في ذلك وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول ، فإن الأدلة لا تدل على قدم شيء بعينه من العالم ، بل تدل على أن ما سوى الله مخلوق حادث ، بعد أن لم يكن ، إذ هو فاعل بقدرته ومشيئته ، كما تدل على ذلك الدلائل القطعية ، والفاعل بمشيئته لا يكون شيء من مفعوله لازما ، بصريح العقل واتفاق عامة العقلاء ، بل وكل فاعل لا يكون شيء من مفعوله لازماً لذاته ، ولا يتصور مقارنة مفعوله المعين له ، ولو قدر أنه فاعل بغير إرادة ، فكيف بالفاعل بالإرادة ؟ وما يذكر بأن المعلول يقارن علته ، إنما يصح فما كان من العلل يجري مجرى الشروط ، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط ، بل قد يقارنه ، كما تقارن الحياة العلم ، وأما ما كان فاعلاً ، سواء سمي علة أو لم يسم ، فلا بد أن يتقدم على الفعل المعين ، والفعل المعين لا يجوز أن يقارنه شيء من مفعولاته ، ولا يعرف العقلاء فاعلا قط يلتزمه مفعول معين ، وقول القائل ( حركت يدي فتحرك الخاتم ) هو من باب الشروط لا من باب الفاعلين ، ولأنه لو كان العالم قديما لكان فاعله موجبا بذاته في الأزل ، ولم يتأخر عنه موجبه ومقتضاه ، ولو كان كذلك لم يحدث شيئاً من الحوادث ، وهذا خلاف المشاهدة ، وإن كان هو سبحانه لم يزل قادراً على الكلام والفعل ، بل لم يزل متكلما إذ شاء ، فاعلاً لما يشاء ، ولم يزل موصوفاً بصفات الكمال ، منعوتاً بنعوت الجلال والإكرام ، والعالم فيه من الإحكام والإتقان ما دل على علم الرب ، وفيه من الاختصاص ما دَل على مشيئته ، وفيه من الإحسان ما دل على رحمته ، وفيه من العواقب الحميدة ما دل على حكمته ، وفيه من الحوادث ما دل على قدرة الرب تعالى ، مع أن الرب مستحق لصفات الكمال لذاته ، فإنه مستحق لكل كمال ممكن للوجود ، لا نقص فيه ، منزه عن كل نقص ، وهو سبحانه ليس له كفؤ في شيء من أموره ، فهو موصوف بصفات الكمال على وجه التفصيل ، منزه فيها ، عن التشبيه والتمثيل ، ومنزه عن النقائص مطلقاً ، فإن وصفه بها من أعظم الأباطيل ، وكماله من لوازم ذاته المقدسة ، لا يستفيده من غيره ، بل هو المنعم على خلقه بالخلق والإنشاء ، وما جعله فيهم من صفات الأحياء ، وخالقُ صفات الكمال أحق بها من لا كفؤ له فيها . وأصل اضطراب الناس في مسألة كلام الله ، أن الجهمية والمعتزلة ، لما ناظرت الفلاسفة في مسألة حدوث العالم ، اعتقدوا أن ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة لا يكون إلا حادثاً ، بناء على أن ما لا يتناهى لا يمكن وجوده ، والتزموا أن الرب كان في الأزل غير قادر على الفعل والكلام ، بل كان ذلك ممتنعاً عليه ، وكان معطلاً عن ذلك ، وقد يعبرون عن ذلك بأنه كان قادراً في الأزل على الفعل فيما لا يزال ، مع امتناع الفعل عليه في الأزل ، فيجمعون بن النقيضين . حيث يصفونه بالقدرة في حال امتناع المقدور لذاته ، إذ كان الفعل يستلزم أن يكون له أولا ، والأزل لا أول له ، والجمع بين إثبات الأولية ونفيها جمع بين النقيضين ، ولم يهتدوا إلى الفرق بين ما يستلزم الأولية والحدوث . وهو الفعل المعين والمفعول المعين وبين ما لا يستلزم ذلك وهو نوع الفعل والكلام ، بل هذا يكون دائماً ، وإن كان كلٌّ من آحاده حادثاً ، كما يكون دائماً في المستقبل ، وإن كان كل من آحاده فانياً . بخلاف خالق يلزمه مخلوقه المعين دائماً ، فإن هذا هو الباطل في صريح العقل وصحيح النقل ، ولهذا اتفقت فطر العقلاء على إنكار ذلك ، لم ينازع فيه إلا شرذمة من المتفلسفة ، كابن سينا وأمثاله . الذين زعموا أن الممكن المفعول قد يكون قديماً واجب الوجود بغيره ، فخالفوا في ذلك جماهير العقلاء ، مع مخالفتهم لسلفهم ، أرسطو وأتباعه ، فإنهم لم يكونوا يقولون ذلك ، وإن قالوا بقدم الأفلاك ، وأرسطوا أول من قال بقدمها من الفلاسفة المشائين ، بناءً على إثبات علة غاية لحركة الفلك ، بتحرك الفلك للنسبة بها ، لم يثبتوا له فاعلاً مبتدعاً ، ولم يثبتوا ممكناً قديماً واجباً بغيره ، وهم ، وإن كانوا أجهل بالله وأكفر من متأخريهم ، فهم يسلمون لجمهور العقلاء ، أن ما كان ممكناً بذاته فلا يكون إلا محدثاً مسبوقاً بالعدم ، فاحتاجوا أن يقولوا : كلامه مخلوق منفصل عنه . وطائفة وافقتهم على امتناع وجود ما لا نهاية له ، لكن قالوا : تقوم به الأمور الاختيارية ، فقالوا : إنه في الأزل لم يكن متكلما ، بل ولا كان الكلام مقدوراً له ، ثم صار متكلما بلا حدوث حادث ، بكلام يقوم به ، وهو قول الهاشمية والكرامية وغيرهم . وطائفة قالت : إذا كان القرآن غير مخلوق ، فلا يكون إلا قديم العين ، لازماً لذات الرب ، فلا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ثم منهم من قال : هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، ومنهم من قال : إنه حروف وأصوات مقترنة لازمة للذات ، وهؤلاء أيضاً وافقوا الجهمية والمعتزلة في أصل قولهم أنه متكلم بكلام لا يقوم بنفسه ومشيئته وقدرته ، وأنه لا تقوم به الأمور الاختيارية ، وأنه لم يستو على عرشه بعد أن خلق السماوات والأرض ، ولن يأتي يوم القيامة ، ولم يناد موسى حين ناداه ، ولا تغضبه المعاصي ولا ترضيه الطاعات ، ولا تفرحه توبة التائبين ، وقالوا في قوله : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } [ التوبة : 105 ] ، ونحو ذلك ، أنه لا يراها إذا وجدت بل إما أنه لم يزل رائياً لها ، وإمَّا أنه لم يتجدد شيء موجود ، بل تعلق معدوم ، إلى أمثال هذه المقالات التي خالفوا فيها نصوص الكتاب والسنة ، مع مخالفة صريح العقل ، والذي ألجأهم لذلك ، موافقتهم للجهمية على أصل قولهم : في أنه سبحانه لا يقدر في الأزل على الفعل والكلام ، وخالفوا السلف والأئمة في قولهم : لم يزل الله متكلما إذا شاء ، ثم افترقوا أحزاباً أربعة كما تقدم : الخلقية ، والحدوثية ، والاتحادية ، والاقترانية ، وشر من هؤلاء الصائبة والفلاسفة . الذين يقولون : إن الله لم يتكلم لا بكلام قائم بذاته ، ولا بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته ، لا قديم النوع ولا قديم العين ، ولا حادث ولا مخلوق ، بل كلامه عندهم ما يفيض على نفوس الأنبياء ، ويقولون : إنه كلم موسى من سماء عقله ، وقد يقولون إنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات ، فإنه إنما يعلمها على وجه كليّ ، ويقولون ، مع ذلك : إنه يعلم نفسه ويعلم ما يفعله ، وقولهم : ( يعلم نفسه ومفعولاته ) حق ، كما قال تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [ الملك : 14 ] ، لكن قولهم ، من ذلك ( إنه لا يعلم الأعيان المعينة ) جهل وتناقض ، فإن نفسه المقدسة معينة ، والأفلاك معينة ، وكل موجود معين ، فإن لم يعلم المعينات لم يعلم شيئاً من الموجودات ، إذ الكليات إنما تكون كليات في الأذهان لا في الأعيان ، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئاً من الموجودات : تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، وهم ، إنما ألجأهم إلى هذا الإلحاد فرارهم من تجدد الأحوال للباري تعالى ، إن هؤلاء يقولون : إن الحوادث تقوم بالقديم ، وإن الحوادث لا أول لها ، لكن نفوا ذلك عن الباري ، لاعتقادهم أنه لا صفة له ، بل هو وجود مطلق ، وقالوا : إن العلم نفس عين العالم ، والقدرة نفس عين القادر ، والعلم والعالم شيء واحد ، والمريد والإرادة شيء واحد ، فجعلوا هذه الصفة هي الأخرى ، وجعلوا الصفات هي الموصوف ، ومنهم من يقول : بل العلم كل المعلوم ، كما يقوله الطوسي صاحب ( شرح الإشارات ) فإنه أنكر على ابن سينا إثبات لعلمه بنفسه وما يصدر عن نفسه ، وابن سينا أقرب إلى الصواب ، لكنه تناقض مع ذلك حيث نفى قيام الصفات به ، وجعل الصفة عين الموصوف ، وكل صفة هي الأخرى ، ولهذا كان هؤلاء هم أوغل في الاتحاد والإلحاد ممن يقول : معاني الكلام شيء واحد ، لكنهم ألزموا قولهم لأولئك فقالوا : إذا جاز أن تكون المعاني المتعددة شيئاً واحداً ، جاز أن يكون العلم هو القدرة ، والقدرة على الإرادة ، فاعترف حذاق أولئك بأن هذا الإلزام لا جواب عنه ، ثم قالوا : وإذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى ، جاز أن تكون الصفة هي الموصوف ، فجاء ابن عربيّ وابن سبعين والقونويّ ونحوهم ، فقالوا : إذا جاز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى والصفة هي الموصوف ، جاز أن يكون الموجود الواجب القديم الخالق ، هو الموجود الممكن المحدَث المخلوق ، فقالوا : إن وجود كل مخلوق هو عين وجود الخالق ، وقالوا : الوجود واحد ، ولم يفرّقوا بين الواحد بالنوع والواحد بالعين ، كما لم يفرق أولئك بين الكلام الواحد بالعين ، والكلام الواحد بالنوع ، وكان منتهى أمر أهل الإلحاد في الكلام ، إلى هذا التعطيل والكفر والاتحاد ، الذي قاله أهل الوحدة والحلول والاتحاد في الخالق والمخلوقات ، كما أن الذين لم يفرقوا بين نوع الكلام وعينه ، وقالوا : هو يتكلم بحرف وصوت قديم ، قالوا : أولاً إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته ، ولا تسبق الباء السين ، بل لما نادى موسى فقال : { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي } [ طه : 14 ] { إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ القصص : 30 ] كانت الهمزة والنون وما بينهما موجوداً في الأزل ، يقارن بعضها بعضاً ، لم تزل ولا تزال لازمة لذات الله ، ثم قال فريق منهم : إن ذلك القديم هو نفس الأصوات المسموعة من القرّاء . وقال بعضهم : بل المسموع صوتان : قديم ومحدث ، وقال بعضهم : أشكال المداد قديمة أزلية ، وقال بعضهم : محل المداد قديم أزليّ ، وحكي عن بعضهم أنه قال : المداد قديم أزليّ . وأكثرهم يتكلمون بلفظ القديم ، ولا يفهمون معناه ، بل منهم من يظن أنه قديم في علمه ، ومنهم من يظن أن معناه متقدم على غيره ، ومنهم من يظن أن معنى اللفظ أنه غير مخلوق ، ومنهم من لا يميز بين ما يقول ، فصار هؤلاء حلولية اتحادية في الصفات ، ومنهم من يقول بالحلول والاتحاد في الذات والصفات ، وكان منتهى أمر هؤلاء وهؤلاء إلى التعطيل . والصواب في هذا الباب وغيره ، مذهب سلف الأمة وأئمتها : أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء ، وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وأن كلماته لا نهاية لها ، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى ، وإنما ناداه حين أتى ، لم يناده قبل ذلك ، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد ، كما أن علمه لا يماثل علمهم ، وقدرته لا تماثل قدرتهم ، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال - باطلة ، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات - باطلة ، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، وقد بسطناها في ( الواجب الكبير ) ، والله أعلم بالصواب . ( وقال تقي الدين أيضاً في مقالة له في هذا البحث ) : أول من أظهر إنكار التكليم والمُخَالَّة الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية ، وأمر علماء الإسلام ، كالحسن البصريّ وغيره ، بقتله ، فضحى به خالد بن عبد الله القسريّ ، أمير العراق بواسط ، فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوّاً كبيراً . ثم نزل فذبحه ، وأخذ ذلك عنه الجهم بن صفوان ، فأنكر أن يكون الله يتكلم ، ثم نافق المسلمين فأقر بلفظ الكلام وقال : كلامه يخلق في محل كالهواء وورق الشجر ، ودخل بعض أهل الكلام أو الجدل ، من المنتسبين إلى الإسلام ، من المعتزلة ونحوهم ، في بعض مقالة الصابئة والمشركين ، متابعة للجعد والجهم ، وكان مبدأ ذلك أن الصابئة في الخلق على قولين : منهم من يقول : إن السماوات مخلوقة بعد أن لم تكن ، كما أخبرت بذلك الرسل وكتب الله تعالى ، ومنهم من ابتدع فقال : بل هي قديمة أزلية ، لم تزل موجودة بوجود الأول واجب الوجود بنفسه ، ومنهم من قد ينكر الصانع بالكلية ، ولهم مقالات كثيرة الاضطراب ، في الخلق والبعث والمبدأ والمعاد ، لأنهم لم يكونوا معتصمين بحبلٍ من الله تعالى يجمعهم ، والظنون لا تجمع الناس في مثل هذه الأمور ، التي تعجز الآراء عن درك حقائقها إلا بوحي من الله تعالى ، وهم إنما يناظر بعضهم بعضا بالقياس المأخوذ مقدماته من الأمور الطبيعية السفلية ، وقوى الطبائع الموجودة في التراب والماء والهواء والحيوان والمعدن والنبات ، ويريدون بهذه المقدمات السفلية أن ينالوا معرفة الله ، وعلم ما فوق السماوات ، أول الأمر وآخره ، وهذا غلط بيّن ، اعترف أساطينهم بأن هذا غير ممكن ، وأنهم لا سبيل لهم إلى إدراك اليقين ، وأنهم إن يتبعون إلا الظن ، فلما كان حال هذه الصائبة المبتدعة الضالة ومن أضلوه من اليهود والنصارى ، وكان قد اتصل كلامهم ببعض من لم يهتد بهدي الله الذي بعث به رسله ، من أهل الكلام والجدل - صاروا يريدون أن يأخذوا مآخذهم ، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : " " لتأخذن مأخذ الأمم قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع " ، قالوا : يا رسول الله ! فارس الروم ؟ قال : " ومَن الناس إلا فارس والروم ؟ " فاحتجوا على حدوث العالم بنحو من مسالك هذه الصابئة ، وهو الكلام في الأجسام والأعراض ، بأن تثبت الأعراض ثم يثبت لزومها للأجسام ، ثم حدوثها ، ثم يقال : ما لا يسبق الحوادث فهو حادث ، واعتمد كثير من أهل الجدل على هذا في إثبات حدوث العالم ، فلما رأوا أن الأعراض ، التي هي صفات ، تدل عندهم على حدوث الموصوف الحامل للأعراض - التزموا نفيها عن الله ، لأن ثبوتها مستلزم حدوثه ، وبطلان دليل حدوث العالم الذي اعتقدوا ألا دليل سواه بل ربما اعتقدوا أنه لا يصح إيمان أحد إلا به - معلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، وهؤلاء يخالفون الصابئة الفلاسفة الذين يقولون بقدم العالم وبأن النبوة كمال يفيض على نفس النبيّ ، لأن هؤلاء المتكلمين أكثر حقاً وأتبع للأدلة العقلية والسمعية ، لما تنورت به قلوبهم من نور الإسلام والقرآن ، وإن كانوا قد ضلوا في كثير مما جاء به الرسل ، لكن هم خير من أولئك من وجوه أخرى وافقوا فيها ، فوافقوا أولئك على أن الله لم يتكلم ، كما وافقوهم على أنه لا علم له ولا قدرة ولا صفة من الصفات ، ورأوا أن إثباته متكلما يقتضي أن يكون جسماً ، والجسم حادث ، لأنه من الصفات الدالة على حدوث الموصوف ، بل هو عندهم أدل على حدوث المتكلم من غيره ، لأنه يفتقر من المخارج إلى ما لا يفتقر إليه غيره ، ولأن فيه من الترتيب والتقديم والتأخير ما ليس في غيره ، ولما رأوا أن الرسل اتفقت على أنه متكلم ، والقرآن مملوء من إثبات ذلك - صاروا تارة يقولون : متكلم مجازاً لا حقيقة ، وهذا قولهم الأول لما كانوا في بدعتهم على الفطرة ، قبل أن يدخلوا في المعاندة والجحود ، ثم إنهم رأوا هذا شنيعاً فقالوا : بل هو متكلم حقيقة ، وربما حكى بعض متكلميهم الإجماع ، وليس عندهم كذلك ، بل حقيقة قولهم وأصله ، عند من عرفه وابتدعه : إن الله ليس بمتكلم ، وقالوا المتكلم مَنْ فعل الكلام ، ولو في محل منفصل عنه ، ففسروا المتكلم في اللغة بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم ، لا حقيقة ولا مجازاً ، وهذا قول من يقول : القرآن مخلوق : وهو أحد قولي الصابئة الذين يوافقون الرسل في حدوث العالم ، وهو وإن كفر بما جاءت به الرسل ، فليس هو في الكفر مثل القول الأول ، لأن هؤلاء لا يقولون : إن الله أراد أن يبعث رسولاً معيناً ، وأن ينزل عليه هذا الكلام الذي خلقه ، وأنكروا أن يكون متكلما على الوجه الذي دلت عليه الكتب الإلهية ، واتفقت عليه أهل الفطرة السليمة ، ونشأ بين هؤلاء الذين هم فروع الصابئة ، وبين المؤمنين أتباع الرسل ، الخلاف ، فكفر هؤلاء ببعض ما جاءت به الرسل من وصف الله بالكلام والتكليم ، واختلفوا في كتاب الله فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، واتبع المؤمنون ما أنزل إليهم من ربهم من أن الله تكلم بالقرآن ، وأن كلم موسى تكليما ، وأنه يتكلم ، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه كم فعل الأولون ، بل ردوا تحريف أولئك ببصائر الإيمان ، الذي علموا به مراد الرسل من أخبارهم برسالة الله وكلامه ، وتبعوا هذا القرآن والحديث وإجماع السلف من الصحابة والتابعين وسائر أتباع الأنبياء ، وعلموا أن قول هؤلاء أخبث من قول اليهود والنصارى ، حتى كان ابن المبارك إمام المسلمين يقول : إنَّا لنحكي ، كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية ، وكان قد كثر ظهور هؤلاء ، الذين هم فروع المشركين ، ومن اتبعهم ، من مبدلة الصابئين ثم مبدلة اليهود والنصارى في أوائل المائة الثانية وأوائل الثالثة ، في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون بسبب تعريب كتب الروم المشركين الصابئين ، الذين كانوا قبل النصارى ، ومن أشبههم من فارس والهند ، وظهرت علوم الصابئين المنجمين ونحوهم ، وقد تقدم أن أهل الكلام المبتدع في الإسلام هم من فروع الصابئين ، كما يقال : المعتزلة مخانيث الفلاسفة ، فظهرت هذه المقالة في أهل العلم والكلام ، وفي أهل السيف والإمارة ، وصار في أهلها من الخلفاء والأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء ، ما امتحنوا به المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ، الذين اتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ، ولم يبدلوا ويبتدعوا ، وذلك لقصورٍ وتفريطٍ من أكثرهم ، في معرفة حقيقة ما جاء به الرسول وأتباعه . فصل فجاء قوم من متكلمي الصفاتية الذين نصروا أن الله له علم وقدرة وبصر وحياة ، بالمقاييس العقلية المطابقة للنصوص النبوية ، وفرّقوا بين الصفات القائمة بالجواهر فجعلوها أعراضاً ، وبين الصفات القائمة بالرب فلم يسموها أعراضاً ، لأن العرض ما لا يدوم وما لا يبقى ، أو ما يقوم بمتحيز أو جسم وصفات الرب لازمة دائمة ليست من جنس الأعراض القائمة بالأجسام ، وهؤلاء أهل الكلام القياسيّ من الصفاتية ، فارقوا أولئك المبتدعة المعطلة الصابئة في كثير من أمورهم ، وأثبتوا الصفات التي قد يستدل بالقياس العقليّ عليها ، كالصفات السبع ، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، ولهم نزاع في السمع والبصر والكلام ، هل هو من الصفات العقلية أو الصفات النبوية الخبرية السمعية ؟ ولهم اختلاف في البقاء والقدم ، وفي الإدراك الذي هو إدراك المشمومات والمذوقات والملموسات ، ولهم أيضاً اختلاف في الصفات السمعية القرآنية الخبرية ؟ كالوجه واليد ، فأكثر متقدميهم أو كلهم يثبتها ، وكثير من متأخريهم لا يثبتها ، وأما ما لا يرد إلا في الحديث فأكثرهم لا يثبتها ، ثم منهم من يصرف النصوص عن دلالتها لأجل ما عارضها من القياس العقليّ عنده ، ومنهم من يفوّض معناها ، وليس الغرض هنا تفصيل مقالات الناس فيما يتعلق بسائر الصفات ، وإنما المقصود القول في رسالة الله وكلامه الذي بلغته رسله ، فكان هؤلاء بينهم وبين أهل الوراثة النبوية ، قدر مشترك بما ملكوه من الطرق الصائبة في أمر الخالق وأسمائه وصفاته ، فصار في مذهبهم في الرسالة تركيب من الوراثتين ، لبسوا حق ورثة الأنبياء بباطل ورثة أتباع الصابئة ، كما كان في مذهب أهل الكلام المحض المبتدع كالمعتزلة ، تركيب ، وليس بين الأثارة النبوية وبين الأثارة الصابئة ، لكن أولئك أشد اتباعاً للأثارة النبوية ، وأقرب إلى مذاهب أهل السنة ، من المعتزلة ونحوهم ، من وجوه كثيرة ، ولهذا وافقهم في بعض ما ابتدعوه كثير من أهل الفقه والحديث والتصوف ، لوجوه : أحدها : كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الأثارة النبوية عندهم . الثاني : لبسهم ذلك بمقاييس عقلية بعضها موروث عن الصابئة وبعضها مما ابتدع في الإسلام ، واستيلاء ما في ذلك من الشبهات عليهم ، وظنهم أنه لم يكن التمسك بالأثارة النبوية من أهل العقل والعلم إلا على هذا الوجه . الثالث : ضعف الأثارة النبوية الدافعة لهذه الشبهات والموضحة لسبيل الهدى عندهم . الرابع : العجز والتفريط الواقع في المنتسبين إلى السنة والحديث ، تارة يرون ما يعلمون صحته ، وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ ، ويُعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور . فلما كان هذا منهاجهم ، وقالوا : إن القرآن غير مخلوق ، لما دل على ذلك من النصوص وإجماع السلف ، ولَمَّا رأوا أنه مستقيم على الأصل الذي قرروه في الصفات ، ورأوا أن التوفيق بين النصوص النبوية السمعية ، وبين القياس العقليّ ، لا يستقيم إلا أن يجعلوا القرآن معنى قائماً بنفس الله تعالى كسائر الصفات ، كما جعله الأوّلون من باب المصنوعات المخلوقات ، لا قديما كسائر الصفات ، ورأوا أنه ليس إلا مخلوقاً أو قديماً ، فإن إثبات قسم ثالث قائم بالله يقتضي حلول الحوادث بذاته ، وهو دليل على حدوث الموصوف ، ويبطل لدلالة حدوث العالم ، ثم رأوا أنه لا يجوز أن يكون معاني كثيرة ، بل إما معنى واحداً عند طائفة ، أو معاني أربعة عند طائفة ، والتزموا على هذا أن حقيقة الكلام هي المعنى القائم بالنفس ، وأن الحروف والأصوات ليست من حقيقة الكلام ، بل دالة عليه ، فتسمى باسمه إما مجازا عند طائفة أو حقيقة بطريق الاشتراك عند طائفة ، وإما مجازاً في كلام الله ، حقيقة في غيره عند طائفة ، وخالفهم الأولون وبعض من يستنن أيضاً ، وقالوا : لا حقيقة للكلام إلا الحروف والأصوات ، وليس وراء ذلك معنى إلا العلم ونوعه ، أو الإرادة ونوعها ، فصار النزاع بين الطائفتين ، وادعى هؤلاء أن الأمر والنهي والخبر صفات للكلام إضافية ، ليست أنواعاً له وأقساماً ، وأن كلام الله معنى واحد ، إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن ، وبالعبرية فهو توراة ، وبالسريانية فهو إنجيل ، وقال لهم أكثر الناس : هذا معلوم الفساد بالضرورة ، كما قال الأولون : إنه خلق الكلام في الهواء فصار متكلما به ، وإن المتكلم مَنْ أحدث الكلام ولو في ذاتٍ غير ذاته ، وقال لهم أكثر الناس : إن هذا معلوم الفساد بالضرورة ، وقال الجمهور من جميع الطوائف : إن الكلام اسم للفظ والمعنى جميعاً ، كما أن الإنسان المتكلم اسم للروح والجسم جميعاً ، وإنه إذا أطلق على أحدهما فبقرينة ، وإن معاني الكلام متنوعة ليست منحصرة في العلم والإرادة ، كتنوع ألفاظه ، وإن كانت المعاني أقرب إلى الاتحاد والاجتماع ، والألفاظ أقرب إلى التعدد والتفرّق ، والتزم هؤلاء أن حروف القرآن مخلوقة ، وإن لم يكن عندهم المعنى الذي هو كلام الله مخلوقاً ، وفرّقوا بين كتاب الله وكلامه ، فقالوا : كتاب الله هو الحروف وهو مخلوق ، وكلام الله هو معناها غير مخلوق ، وهؤلاء والأولون متفقون على خلق القرآن الذي قال الأولون : إنه مخلوق ، واختلف هؤلاء أين خلقت هذه الحروف ؟ هل خلقت في الهواء أو في نفس جبرئيل أو أن جبرئيل هو الذي أحدثها أو محمد ؟ وأما جمهور الأمة وأهل الحديث والفقه والتصوف فعلى ما جاءت به الرسل وما جاء عنهم من الكتب والأثارة من العلم ، وهم المتبعون للرسالة اتباعاً محضاً ، لم يشوبوه بما يخالفه من مقالة الصابئين ، وهو أن القرآن كله كلام الله ، لا يجعلون بعضه كلام الله وبعضه ليس كلام الله ، والقرآن هو القرآن الذي يعلم المسلمون أنه القرآن ، حروفه ومعانيه ، والأمر والنهي ، هو اللفظ والمعنى جميعاً ، ولهذا كان الفقهاء المصنفون في أصول الفقه من جميع الطوائف : الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ، إذا لم يخرجوا عن مذاهب الأئمة والفقهاء ، إذا تكلموا في الأمر والنهي ، ذكروا ذلك ، وخالفوا من قال : إن الأمر هو المعنى المجرد ، ويعلمون أهل الأثارة النبوية أهل السنة والحديث وعامة المسلمين الذين هم جماهير أهل القبلة ؛ أن قوله تعالى : { الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 1 - 2 ] ، ونحو ذلك هو كلام الله لا كلام غيره ، وكلام الله هو ما تكلم به ، لا ما خلقه في غيره ولم يتكلم هو به . ( وسئل تقي الدين أيضاً ) : ما تقول السادة العلماء الجهابذة أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين ، فيمن يقول : الكلام غير المتكلم والقول غير القائل ، والقرآن والمقروء والقارئ كل واحد منها له معنى ، بينوا لنا ذلك بياناً شافياً ليصل إلى ذهن الحاذق والبليد ، أثابكم الله بمنه . ( فأجاب رحمه الله ) : الحمد لله ، من قال : إن الكلام غير المتكلم ، والقول غير القائل ، وأراد أنه مبائن له ومنفصل عنه ، فهذا خطأ وضلال ، وهو من يقول : إن القرآن مخلوق ، فإنهم يزعمون أن الله لا تقوم به صفة من الصفات لا القرآن ولا غيره ، ويوهمون الناس بقولهم : العلم غير العالم ، والقدرة غير القادر ، والكلام غير المتكلم . ثم يقولون : وما كان غير الله فهو مخلوق ، وهذا تلبيس منهم ، فإن لفظ ( الغير ) يراد به ما يجوز مبائنته للآخر ومفارقته له ، وعلى هذا فلا يجوز أن يقال : علم الله غيره ولا كلامه غيره ، ولا يقال : إن الواحد من العشرة غيرها ، وأمثال ذلك ، وقد يقال بلفظ ( الغير ) ما ليس هو الآخر ، وعلى هذا فتكون الصفة غير الموصوف ، ولكن على هذا المعنى ، لا يكون ما هو غير ذات الله الموصوفة بصفاته - مخلوقاً ، لأن صفاته ليست هي الذات ، لكن قائمة بالذات ، والله سبحانه وتعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات كماله ، وليس الاسم اسما لذات لا صفات لها ، بل يمتنع وجود ذات لا صفات لها ، والصواب في مثل هذا أن يقال : الكلام صفة المتكلم . والقول صفة القائل ، وكلام الله ليس مبائناً منه ، بل أسمعه لجبرئيل ونزَّله به على محمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 114 ] ولا يجوز أن يقال : إن كلام الله فَارَقَ ذَاتَهُ وانتقل إلى غيره . بل يقال كما قال السلف : إنه كلام الله غير مخلوق ، منه بدا وإليه يعود . فقولهم ( منه بدا ) رد على من قال ( إنه مخلوق في بعض الأجسام ، ومن ذلك المخلوق ابتدأ ) فبينوا أنه الله هو المتكلم به ، ومنه بدا ، لا من بعض المخلوقات . ( وإليه يعود ) أي : فلا يبقى في الصدور منه آية ، ولا في المصاحف حرف ، وأما القرآن فهو كلام الله ، فمن قال : إن القرآن ، الذي هو كلام الله ، غير الله - فخطؤه وتلبيسه كخطأ من قال : إن الكلام غير المتكلم . وكذلك من قال : إن الله له مقروء غير القرآن الذي تكلم به ، فخطؤه ظاهر . وكذلك : أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون غير المقروء الذي يقرؤه المسلمون - فقد أخطأ ، وإن أراد بالقرآن مصدر ( قرأ يقرأ قراءة وقرآنا ) وقال : أردت القراءة غير المقروء ، فلفظ القراءة مجمل قد يراد بالقراءة القرآن ، وقد يراد بالقراءة المصدر ، فمن جعل القراءة التي هي المصدر ، قال : القارئ غير المقروء ، كما يجعل التكلم الذي فعله غير الكلام الذي هو يقول ، وأراد بـ ( الغير ) أنه ليس هو إياه - فقد صدق ، فإن الكلام الذي يتكلم به الإنسان يتضمن فعلا كالحركة ، ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني ، ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة ، وقسيما منه أخرى ، فالأول كما يقال : الإيمان قول وعمل . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم " ومنه قوله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . ومنه قوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } [ يونس : 61 ] . وأمثال ذلك فيما يفرق فيه بين القول والعمل . وأما دخول القول في العمل ففي مثل قوله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 - 93 ] ، وقد فسروه بقوله : لا إله إلا الله . " ولما سئل : أي : الأعمال أفضل ؟ قال : " الإيمان بالله " . مع قوله : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان ، أفضلها وأعلاها قول : لا إله إلا الله . وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " ونظائر ذلك متعددة ، وقد تتوزع فيمن حلف لا يعمل عملاً ، إذا قال قولاً كالقراءة ، هل يحنث ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره ، بناء على هذا ، فهذه الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه إذا فصلت معانيها ، وإلا وقع فيها نزاع واضطراب ، والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى كلام تقيّ الدين رحمه الله تعالى . وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب ( الرد على الجهمية ) : سألت أبي عن قوم يقولون ( لما كلم الله موسى ) : لم يتكلم بصوت ، فقال أبي : بلى ، تكلم جل ثناؤه بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت ، وقال أبي : حديث ابن مسعود : إذا تكلم الله تعالى سمع له صوت كمر السلسلة على الصفوان . قال : وهذه الجهمية تنكره ، وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس ، ثم قال : حدثنا المحاربيّ عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبيد الله قال : إذا تكلم الله تبارك وتعالى بالوحي ، سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً . وقال السفارينيّ في ( شرح العقيدة ) : روى في إثبات الحرف والصوت أحاديث تزيد على أربعين حديثاً ، وأخرج الإمام أحمد غالبها ، واحتج به . وأخرج الحافظ ابن حجر أيضاً في ( شرح البخاريّ ) واحتج بها البخاريّ وغيره من أئمة الحديث ، على أن الحق سبحانه يتكلم بحرف وصوت ، وقد صححوا هذا الأصل واعتقدوه ، واعتمدوا على ذلك ، منزهين الله تعالى عما لا يليق بجلاله ، من شبهات الحدوث وسمات النقص ، كما قالوا في سائر الصفات ، معتمدين على ما صح عندهم من صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله ، الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم . وقال الإمام الواسطيّ ابن شيخ الحرمين الشافعيّ في ( عقيدته ) : إنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل : مسألة الصفات ، ومسألة الفوقية ، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد ، وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك ، من تأويل الصفات وتحريفها ، أو إمرارها والوقوف فيها ، أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ، ولا تشبيه ولا تمثيل ، فأجد النصوص في كتاب الله وسنة رسوله ناطقة مبينة لحقائق هذه الصفات ، وكذلك في إثبات العلوّ والفوقية ، وكذلك في الحرف والصوت ، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم ، منهم من تأول الاستواء بالقهر والاستيلاء ، وتأول النزول بنزول الأمر ، وتأول اليدين بالنعمتين والقدرتين ، وتأول القَدَم بقدم صدق عند ربهم ، وأمثال ذلك ، ثم أجدهم مع ذلك يجلون كلام الله معنى قائماً بالذات ، بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم ، وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة ، مثل بعض فقهاء الأشعرية الشافعيين ، لأني على مذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى ، عرفت فرائض ديني وأحكامه ، فأجد مثل هؤلاء الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال ، وهم شيوخي ، ولي فيهم الاعتقاد التام ، لعلمهم وفضلهم ، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها ، وأجد الكدر والظلمة منها ، وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقروناً بها ، فكنت كالمتحير ، المضطرب في تحيره ، المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره ، وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول ، مخافة الحصر والتشبيه ، ومع ذلك ، فإذا طالعت النصوص والواردة في كتاب الله وسنة رسوله أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ، وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبراً عن ربه ، واصفا له بها ، ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص ويؤولها كما تأولها هؤلاء الفقهاء والمتكلمون ، ثم قال : والذين أولوا ما أولوا ، هو أنهم ما فهموا في صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوقين ، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه ، وعطلوا ما وصفه الحق به نفسه ، ولو علموا أن هذه الصفات هي كلها ثابتة له ، كما يليق بجلاله وعظمته ، لا على ما نعقل من صفات المخلوقين ، لسلموا من التشبيه والتأويل المؤدي إلى التعطيل . ثم قال : ومسألة الحرف والصوت تساق هذا المساق ، فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد بجميع حروفه ، فقال تعالى : { الۤمۤصۤ } [ الأعراف : 1 ] وقال : { قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ } [ ق : 1 ] ، وكذلك جاء في الحديث : " فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب " ، وفي الحديث : " لا أقول : ( الم ) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف " فهؤلاء ما فهموا من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين ، قالوا : إذا قلنا بالحرف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات ، وكذلك إذا قلنا بالصوت أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة ، فعملوا بهذا من التخبيط كما عملوا فيما تقدم من الصفات ، والتحقيق هو أن الله تعالى تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر - والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا إلى لهوات ، وكذلك له صوت يليق به يُسمع ، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة ، فكلام الله كما يليق به ، وصوته كما يليق به ، ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه ، لافتقارهما منا إلى الجوارح واللهوات ، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك ، وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله : هذا عبارة عن ذلك ، فإن قيل : هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلمه هو ؟ قلنا : لا ، بل القارئ يؤدي كلام الله ، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئاً ، لا إلى من قاله مؤدّياً مبلغاً ، ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق ، وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدَّى عن الكلام المؤدَّى عنه ، ولهذا منع السلف من قول ( لفظي بالقرآن مخلوق ) لأنه لا يتميز ، كما منعوا عن قول ( لفظي بالقرآن غير مخلوق ) فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه ، كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن ، وما أمر السلف بالسكوت عنه ، يجب السكوت عنه ، والله الموفق والمعين . تنبيه قال في ( العناية ) : القراءة المشهورة في الآية رفع الجلالة الشريفة ، وقرئ بنصبها في الشواذ . انتهى . قال الحافظ ابن كثير : روى الحافظ أبو بكر بن مردويه أن رجلاً جاء إلى أبي بكر بن عياش فقال : سمعت رجلاً يقرأ : وكلم اللهَ موسى تكليما ، فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر ، قرأت على الأعمش ، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثّاب ، وقرأ يحيى بن وثّاب على أبي عبد الرحمن السلميّ ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلميّ على عليّ بن أبي طالب ، وقرأ عليّ بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } . وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله ، على من قرأ كذلك ، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه ، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام ، أو يكلم أحداً من خلقه ، كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ : { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } ، فقال له : يا ابن اخنا ! كيف تصنع بقوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [ الأعراف : 143 ] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل .