Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 171-171)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } أي : بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته ، فإنه تجاوزٌ فوق المنزلة التي أُوتِيَهَا ، وهي الرسالة ، واستفيد حرمة الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد . وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله " وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البنانيّ ، عن أنس بن مالك أن رجلاً قال : " يا محمد ! يا سيدنا وابن سيدنا ! وخيرنا وابن خيرنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ! عليكم بقولكم ولا يستهوينّكم الشيطان ، أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " " . قال ابن كثير : تفرد به من هذا الوجه : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أي : لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد ، بل نزهوه عن جميع ذلك { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } صفة له مفيدة لبطلان ما وصفوه به من كونه ابناً لله تعالى { رَسُولُ ٱللَّهِ } خبر المبتدأ أعني : المسيح ، أي : مقصور على مقام الرسالة لا يتخطاه { وَكَلِمَتُهُ } أي : مكوّن بكلمته وأمره الذي هو ( كن ) من غير واسطة أب ولا نطفة { أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } أي : أوصلها إليها وحصلها فيها نفخ جبريل عليه السلام { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي : بتخليقه وتكوينه كسائر الأرواح المخلوقة ، وإنما أضافَهُ إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال : بيت الله ، وناقة الله . وقيل : الروح : هو نفخ جبريل عليه السلام في جيب درع مريم ، فحملت بإذن الله ، سمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح ، وإنما أضافه إلى نفسه لأنه وجد بأمره تعالى وإذنه . قال أبو السعود : ( من ) لابتداء الغاية مجازاً ، لا تبعيضية ، كما زعمت النصارى ، يحكى أن طبيباً نصرانياً للرشيد ، ناظَرَ عليّ بن حسين الواقديّ المروزيّ ذات يوم ، فقال له : إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى ، وتلا هذه الآية ، فقرأ الواقديّ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] ، فقال : إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا منه ، تعالى علوّاً كبيراً ، فانقطع النصرانيّ وأسلم ، وفرح الرشيد فرحاً شديداً ، ووصل الواقدي بصلة فاخرة . وقيل : سمي روحاً ، لإحيائه الموتى بإذن الله ، وقيل : لإحيائه القلوب ، كما سمي به القرآن لذلك ، في قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . وقيل : أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم بالبشارة . وقيل : جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة ، قالوا : إنه روح ، فلما كان عيسى عليه السلام متكوناً من النفخ ، لا من النطفة ، وصف بالروح ، وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر ، مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحاً منه ، في الوجود - لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل ، وتعيين مآل ما يحتمله ، وسدّ باب التأويل الزائغ . انتهى . { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ } وخصوه بالألوهية { وَرُسُلِهِ } أي : جميعهم وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } أي : الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 116 ] . وقد ذكر السيد عبد الله الهنديّ في مناظرته مع قسيس الهند حكاية عن مناظره ؛ أنه حكى أن فرقة من النصارى تسمى ( كولي ري دينس ) كانت تقول : الآلهة ثلاثة : الأب والابن ومريم ، قال : ولعل هذا الأمر كان مكتوباً في نسخهم ، لأن القرآن كذبهم . انتهى . أو التقدير : ولا تقولوا : الله ثلاثة ، أي : ثلاثة أقانيم ، وفي تعاليمهم المدرسية المطبوعة الآن ما نصه : أخص أسرار المسيحية سر الثالوث ، وهو إله واحد في ثلاثة أقانيم : الأب والابن وروح القدس . والأب هو الله والابن هو الله ، وروح القدس هو الله ، وليسوا ثلاثة آلهة ، بل إله واحد موجود في ثلاثة أقانيم متساوين في الجوهر ومتميزين فيما بينهم بالأقنومية ، وذلك لأن لهم جوهراً واحداً ولاهوتاً واحداً ، وذاتاً واحدةً ، وليس أحد هذه الأقانيم الثلاثة أعظم أو أقدم أو أقدر من الآخرين ، لكون الثلاثة متساوية في العظمة والأزلية والقدرة وفي كل شيء ، ما عدا الأقنومية ، ولا نقدر أن نفهم جيداً هذه الحقائق لأنها أسرار فائقة العقل والإدراك البشريّ . انتهى كلامهم في تعليمهم المدرسيّ المطبوع في بيروت سنة ( 1876 ) مسيحية . فانظر إلى هذا التناقض والتمويه ، يعترفون بأن الثلاثة آلهة ، ثم يناقضون قولهم وينكرون ذلك . ونقل العلامة الشيخ رحمة الله الهنديّ في كتابه ( إظهار الحق ) عن صاحب ( ميزان الحق ) النصرانيّ أنه قال : نحن لا نقول : إن الله ثلاثة أشخاص أو شخص واحد ، بل نقول بثلاثة أقانيم في الوحدة ، وبين الأقانيم الثلاثة وثلاثة أشخاص بُعد السماء والأرض . انتهى . قال رحمة الله : وهذه مغالطة صرفة ، لأن الموجود لا يمكن أن يوجد بدون التشخص ، فإذا فرض أن الأقانيم موجودون وممتازون بالامتياز الحقيقيّ ، كما صرح هو بنفسه في كتبه ، فالقول بوجود الأقانيم الثلاثة هو بعينه القول بوجود الأشخاص الثلاثة ، على أنه وقع في الصحيفة التاسعة والعشرين من كتاب الصلاة ، الرائج في كنيسة انكلترة ، المطبوع سنة ( 1818 ) ما ترجمته : أيها الثلاثة المقدسون والمباركون والعالون منزلةً ، الذين هم واحد . يعني ثلاثة أشخاص وإلهاً واحداً ، فوقع فيه ثلاثة أشخاص صريحاً ، وكذلك مملوءة بعبارات مصرحة بأن عيسى ابن الله ، وأنه الله ، وأن مريم أم الله وزوجه الله ، ويسجدون لها ولصورتها السجود المحرَّم في كتبهم لغير الله ، كما يسجدون لله ، نسأله سبحانه وتعالى الحفظ ، ونعوذ به من الخذلان وتسويلات الشيطان . ولقد شفى الغليل الأستاذ الجليل الشيخ رحمة الله في ( إظهار الحق ) فساق ، في الباب الرابع منه ، إبطال التثليث بالبراهين الدامغة والحجج البالغة ، كما رد عليهم من المسلمين وممن أسلم منهم عدد وافر يفوت الحصر ، وقد انتشر ، ولله الحمد ، في ذلك مؤلفات نافعة ، بل رد عليهم فرق كثيرة منهم . فقد جاء في كتاب ( الرأي الصواب وفصل الخطاب ) للقس جبارة ما صورته : إن المسيحيين الموحدين الذين ظهروا منذ ( 80 ) سنة في أميركا ولهم الآن ثلاثمائة كنيسة والدرجة الأولى في المعارف والمدارس والاجتماعات الأدبية ، وكذلك لهم في انكلترا ثلاثمائة كنيسة وتآليف عديدة معتبرة ، ويعتبرون القرآن كما يعتبرون الإنجيل والتوراة كتباً إلهية - لا يؤمنون بتثليث الآلهة ، أي : إنهم لا يعتقدون بكون السيد المسيح أو الروح القدس هو إله حقيقيّ ، كالله الواجب الوجود ، بل يعتقدون أن الله وحده هو الإله الحق . انتهى . وفيه أيضاً ما لفظه : كل الكتب المنزلة تعلم بالوحدانية وتنفي تثليث الآلهة ، أو كون الله ثلاثة ، وتعلن صريحاً بأوضح العبارة ؛ أن الله واحد أحد ، وأنه لا إله حقاً سواه . انتهى . وفي كتاب ( سوسنة سليمان ) ذكر فرق منهم متعددة صارت إلى إنكار ألوهية المسيح والروح القدس ، وهذا الكتاب ساق من فرقهم العتيقة والحديثة واختلافهم ما يقضي بالعجب ، مما يؤيد ما قاله الحافظ ابن كثير ، من أن لهم آراء مختلفة وأقوالاً غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً . انتهى . قال شيخ الإسلام تقيّ الدين ابن تيمية في ( الرسالة القبرصية ) : فتفرق النصارى في التثليث والاتحاد تفرقاً وتشتتوا تشتيتاً لا يقرّ به عاقل ، ولم يجيء نقل ، إلا كلمات متشابهات . في الإنجيل وما قبله من الكتب ، قد بينتها كلمات في الإنجيل وما قبله ، كلها تنطلق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ، ودعائه وتضرعه ، ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله ، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله ، فأرباب التثليث في الوحدانية ، والاتحاد في الرسالة ، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها ، وبكتب الله التي أنزلها . انتهى . وقد اجتمع لديَّ ، بحمده تعالى ، حين كتابة هذه السطور عشرون مؤلفّاً في الرد عليهم ، وكلها ، ولله الحمد ، مطبوعة منتشرة ، فلا حاجة للإطالة بالنقل عنها ، لسهولة الوقوف عليها . قال الماردويّ في ( أعلام النبوة ) : فأما النصارى فقد كانوا ، قبل أن تنصر قسطنطين الملك ، على دين صحيح في توحيد الله تعالى ونبوة عيسى عليه السلام ، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين ، وهو أول من تنصر من ملوك الروم ، أي : لأن الروم كانت صابئة ، ثم قهرهم على التنصر قسطنطين لما ملكهم . فقال أوائل النسطورية : إن عيسى هو الله . وقال أوائل اليعاقبة : إنه ابن الله . وقال أوائل الملكانية : إن الآلهة ثلاثة : أحدهم عيسى . ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر ، حين استنكرته النفوس ، ودفعته العقول ، فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد ، هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنها واحدة في الجوهرية ، وأن أقنوم الأب هو الذات ، وأقنوم الابن هو الكلمة ، وأقنوم روح القدس هو الحياة ، واختلفوا في الأقانيم ، فقال بعضهم : هي خواص ، وقال بعضهم : هي أشخاص ، وقال بعضهم : هي صفات ، وقالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى ، واختلفوا في الاتحاد . ثم قال : وليس لهذه المذاهب شبهة تقبلها العقول ، وفسادُها ظاهر في المعقول . وقوله تعالى : { ٱنتَهُواْ } أي : عن التثليث { خَيْراً لَّكُمْ } أي : انتهاء خيراً ، أو اقصدوا خيراً من التثليث وهو التوحيد { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي : بالذات ، لا تعدد فيه بوجهٍ ما . وبقوله : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تنزيه لمقامه جل شأنه ، عما زعموه من نبوّة عيسى ، حيث قالوا : إنه الله وابن الله ، والذي أوقعهم في هذه المهلكة الوخيمة ، والورطة الجسيمة ، ما ورد موهماً من ألفاظ الإنجيل كالأب والابن ، فلم يحملوها على ما أريد منها ، وحملوها على ظاهرها ، فضلُّوا وأضلُّوا . وفي ( منية الأذكياء ) ما نصه : وأما ما ورد في الإنجيل الموجود الآن ، من إطلاق ابن الله على عيسى عليه السلام ، فهو - إن لم يكن مما حرف - يكون مجازاً ، بمعنى ابن المحبة ، كما يقال : فلان من أبناء الدنيا ، ونظير ذلك قول عيسى عليه السلام لليهود ، حين ادعوا أن لهم أباً واحداً هو الله : ( لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني ) ، ثم قال لهم . ( أنتم من أب هو إبليس ، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ) ادعت اليهود أن الله تعالى أبوهم ، أي : أنهم مطيعون له إطاعة الابن للأب ، فكذبهم عيسى عليه السلام وجعلهم أبناء الشيطان ، أي أنهم مطيعون له ، ولا يخفى أن الابن والأب هنا مجازان . وقد كثر إطلاق اسم الأب على الله تعالى ، واسم الابن على العبد الصالح ، ي الكتب السالفة ، فهو إما من الخبط في الترجمة ، وإما مؤوّل بما ذكرنا ، فلا تغفل ، لكن قد منع من هذا الإطلاق في الملة المحمدية بالكلية ، تحرزاً من الإيهام والوقوع في شرك الأوهام ، وهذا هو الطريق الرشد . وقوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } تعالى لتنزهه مما نسب إليه ، بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه ، فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه ؟ إذ النبوّة والملك لا يجتمعان { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } أي : إليه يكل كل الخلق أمورهم ، وهو غنيّ عنهم ، فأَنَّى يتصور في حقه اتخاذ الولد ، الذي هو شأن العجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم ، وقوله تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ … } .