Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 19-19)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرْهاً } نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم . روى البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانوا إذا مات الرجل ، كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } الآية . ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم ، ولفظ أبي داود عن ابن عباس : أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت ، أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي : نهى عنه . قال السيوطيّ : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد ، ولا يجري مجرى الأموال بوجه . وكرها ( بفتح الكاف وضمها ) قراءتان ، أي : حال كونهن كارهات لذلك ! أو مكرهات عليه ، والتقييد ( بالكره ) لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، كما في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [ الإسراء : 31 ] . { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ } الخطاب للأزواج ، كما عليه أكثر المفسرين . روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : أن الآية في الرجل تكون له المرأة ، وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر ، فيضرها لتفتدي به . والعضل : الحبس والتضييق ، أي : ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ، أي : من الصداق ، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي : زنى ، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين ، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك ، وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 229 ] . وروي عن ابن عباس أيضاً وغيره : الفاحشة المبينة : النشوز والعصيان . واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك ، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ، ويفارقها . قال ابن كثير : وهذا جيد ، والله أعلم . قال أبو السعود : { مُّبَيِّنَةٍ } على صيغة الفاعل من ( بيّن ) بمعنى تبين ، وقرئ على صيغة المفعول ، وعلى صيغة الفاعل من ( أبان ) بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة . ويعضده قراءة أبيّ : " إلا أن يفحشن عليكم " انتهى . وفي ( الإكليل ) استدل قوم بقوله : { بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ } على منع الخلع بأكثر مما أعطاها . انتهى . ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ } أي : صاحبوهن { بِٱلْمَعْرُوفِ } أي : بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنا بتركهن ، أو سبب النشوز أو سوء الخلق ، فلا يحل لكم حينئذ . قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقَسْم واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب . واستدل بعمومها مَنْ أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } يعني : كرهتم الصحبة معهن { فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } أي : ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولداً صالحاً يكون فيه خير كثير ، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن ، على خلاف الطبع . وفي ( الإكليل ) قال الكيا الهراسيّ : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس ، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه . وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر " و ( يفرك ) بفتح الياء والراء ، معناه يبغض . لطيفة قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه ، وانحصار العليّة في الثاني ، للتوسل إلى تعميم مفعوله - ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروه ، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق ، حسب اقتضاء الحكمة ، وإن ما نحن فيه مادة من موادها ، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ، ما لا يخفى . تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة ، وهي قوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } . قال ابن كثير : أي : طيبوا أقوالكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ } [ البقرة : 228 ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " ، رواه الترمذيّ عن عائشة ، وابن ماجة عن ابن عباس ، والطبرانيّ عن معاوية . وقال صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم للنساء " ، رواه الحاكم عن ابن عباس . وقال صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ، ما أكرم النساء إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم " ، رواه ابن عساكر عن عليّ عليه السلام . وعن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول : بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال : " ألا واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنما هنّ عوان عندكم ، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً ، ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن " ، رواه الترمذيّ ، وقال : حديث حسن صحيح . وقوله : " عوان " أي : أسيرات ، جمع عانية . وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : " قلت : يا رسول الله ! ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تُقَبَّح ولا تهجر إلا في البيت " ، رواه أبو داود . وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه ، ورميه بقوسه ونبله ، ومداعبة أهله " ، رواه أبو داود . وفي رواية له : " كل شيء يلهو به الرجل باطل ، إلا تأديبه فرسه ورميه عن قوسه ومداعبته أهله " . قال ابن كثير : وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقة ، ويضاحك نساءه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يتودد إليها بذلك ، قالت : " سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته ، وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني ، فقال : " هذه بتلك " " . وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها ، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار . وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام ، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] انتهى . وقال الغزالي في : ( الإحياء ) في ( آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ) : الأدب الثاني : حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ، ترحماً عليهن ، لقصور عقلهن ، قال الله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } : وقال في تعظيم حقهن : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً } [ النساء : 21 ] ، وقال تعالى : { وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ } [ النساء : 36 ] ، قيل : هي المرأة . ثم قال : واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام ، وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل ، وراجعت امرأة عمر عُمرَ رضي الله عنه فقال : أتراجعيني ؟ فقالت : إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه ، وهو خير منك . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " " إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى " . قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال : " أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين : لا ، ورب محمد ! ، وإذا كنت غضبى قلت : لا ، ورب إبراهيم ! " قالت : قلت : أجل ، والله ! يا رسول الله ! ما أهجر إلا اسمك " . ثم قال الغزالي : الثالث : أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة ، فهي التي تطيب قلوب النساء ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال ، حتى روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوماً وسبقها في بعض الأيام ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هذه بتلك " . قال العراقي : رواه أبو داود ، والنسائيّ في : ( الكبرى ) وابن ماجة في حديث عائشة بسند صحيح . وقالت عائشة رضي الله عنها : سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتحبين أن تري لعبهم ؟ قالت : قلت : نعم ، فأرسل إليهم فجاؤوا ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البابين ، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه ، وجعلوا يلعبون وأنظر ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حسبك ! " وأقول : لا تعجل ، ( مرتين أو ثلاثاً ) ثم قال : " يا عائشة ! حسبك " ، فقلت : نعم . وفي رواية للبخاريّ قالت : رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد ، حتى أكون أنا الذي أسأم ، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو . وقال عمر رضي الله عنه : ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبيّ ، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلاً . وقال لقمان رحمه الله تعالى : ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبيّ ، وإذا كان في القوم وجد رجلاً . وقال صلى الله عليه وسلم لجابر : " هلاّ بكراً تلاعبها وتلاعبك ؟ " رواه الشيخان . ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت : والله ! لقد كان ضحوكاً إذا ولج ، سكوتاً إذا خرج ، آكلاً ما وجد ، غير سائل عما فقد . انتهى بتصرف . ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء مَنْ أراد فراقهن ، بقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً … } .