Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 21-21)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إنكار لأخذه إثر إنكار ، وتنفير عنه غب تنفير ، على سبيل التعجب ، أي : بأي وجه تستحلون المهر { وَقَدْ أَفْضَىٰ } أي : وصل { بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } فأخذ عوضه { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً } أي : عهداً وثيقاً مؤكداً مزيد تأكيد ، يعسر معه نقضه ، كالثوب الغليظ يعسر شقه . قال الزمخشري : الميثاق الغليظ : حق الصحبة والمضاجعة ، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه ، فقد قالوا : صحبة عشرين يوماً قرابة ، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ انتهى . قال الشهاب الخفاجيّ : قلت بل قالوا : @ صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب @@ أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهم بقوله تعالى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ } [ البقرة : 229 ] أو قول الوليّ عند العقد : أنكحتك على ما في كتاب الله : من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان . تنبيه في فوائد : الأولى : في قوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [ النساء : 20 ] دليل على جواز الإصداق بالمال الجزيل . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك . كما روى الإمام أحمد عن أبي العجفاء السلميّ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلوا صدق النساء ، ألا لا تغلوا صدق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ، ولا أصدق امرأة من بناته ، أكثر من اثنتي عشرة أوقية ، وإن الرجل ليبتلى بصدقة امرأته ( وقال مرة : وإن الرجل ليغلي بصدقة امرأته ) حتى تكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كلفت إليك عَرَقَ القربة ، ورواه أهل السنن ، وقال الترمذيّ : هذا حديث صحيح . وروى أبو يعلى عن مسروق قال : ركب عُمَر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ! ما إكثاركم في صدق النساء ! وقد كان رسول لله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ، ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم . قال : ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش ، فقالت : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال : نعم ، فقالت : أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأيّ ذلك ؟ قالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } [ النساء : 20 ] الآية . قال : فقال : اللهم ! غفراً ، كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس ! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل ، إسناده جيّد قويّ ، قاله ابن كثير . وفي ( الحجة البالغة ) ما نصه : لم يضبط النبي صلى الله عليه وسلم المهر بحدّ لا يزيد ولا ينقص ، إذ العادات في إظهار الاهتمام مختلفة ، والرغبات لها مراتب شتى ، ولهم في المشاحّة طبقات ، فلا يمكن تحديده عليهم ، كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص ، ولذلك قال : " التمس ولو خاتماً من حديد " غير أنه سن في صداق أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّاً ، أي : نصفاً . انتهى . وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه . أخرج أبو داود والحاكم ، وصححه ، من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصداق أيسره " . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، قَال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني تزوجت امرأة من الأنصار . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل نظرت إليها ؟ فإن في عيون الأنصار شيئاً " . قال : قد نظرت إليها . قال : " على كم تزوجتها ؟ " قال : على أربع أواق . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " على أربع أواق ! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ، ما عندنا ما نعطيك ، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه " . قال : فبعث بعثاً إلى بني عبس ، بعث ذلك الرجل فيهم " . الثانية : خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي ، تنبيهاً بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان هذا على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال ، منهيّاً عن استعادة شيء يسير حقير منها على هذا الوجه ، كان من لم يبذل إلا الحقير منهيّاً عن استعادته بطريق الأولى . ومعنى قوله : { وَآتَيْتُمْ } والله أعلم : وكنتم آتيتم ، إذ إرادة الاستبدال في ظاهر الأمر ، واقعة بعد إيتاء المال واستقرار الزوجية - كذا في : الانتصاف . الثالثة : اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء ، واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة ، ومنشأ ذلك : أن ( أفضى ) في قوله تعالى : { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } يجوز حملها على الجماع كناية ، جرياً على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحي من ذكره ، والخلوة لا يستحي من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية : ويجوز إبقاؤها على ظاهرها . قال ابن الأعرابيّ : الإفضاء في الحقيقة الانتهاء ، ومنه : { وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } أي : انتهى وآوى ، هذا ، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام ، ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع ، لا مجرد الخلوة ، فوجب حمل الإفضاء إليه - ذكره الرازي من وجوه . ثم قال : وقوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } كلمة تعجب ، أي : لأيّ وجه ولأي معنى تفعلون هذا ؟ فإنها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذَّتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطيبة نفسه ؟ إن هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم . الرابعة : في : ( الإكليل ) استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقاً ، وقال : إنها ناسخة لآية البقرة . وقال غيره : إن هذه الآية منسوخة بها . وقال آخرون : لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها . انتهى . أقول : إن القول الثالث متعين ، لأن كلاً من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم ، وذلك لأن قوله في البقرة : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] - صريح في أن الزوجة إذا كرهت خَلْق زوجها أو خُلُقَه أو نقص دينه أو خافت إثماً بترك حقه ، أبيح لها أن تفتدي منه وحلّ له أخذ الفداء مما آتاها ، لقوله تعالى ثَمَّ : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ } [ البقرة : 229 ] إلخ . والحكمة في حل الأخذ ظاهرة ، وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه ، واسترداد ما لو أخذ منه ، لكان في صورة المظلوم ، لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه ، فكان من العدل الإلهيّ ألا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال . وأما هذه الآية فهي في حكم آخر ، وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه ، أو ترغب في خلع نفسها منه ، فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع ، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئاً قط بعد الإفضاء ، لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلماً واضحاً ، لأنه أخذ بلا جريرة منها ، فكان في إبقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الإعراض عنها واطراحها ، رحمة منه تعالى ، وعدلاً في القضيتين . فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين ، وليت شعري ماذا يقول في الحديث الصحيح المرويّ في البخاريّ وغيره ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت : " " أتردّين عليه حديقته ! " فقالت : نعم ، فقال صلى الله عليه وسلم لزوجها : " اقبل الحديقة وطلقها " ولا يقال : لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } إلخ ، وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا ، لأنا نقول : إن دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة إنما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين ، فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلاً ، وبالعكس ، ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس ، ولا من مؤكد بدون مؤكده ، وهكذا . وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } لكان كالاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكده ، وهذا ساقط ، لأن قوله : { وَكَيْفَ } تنفير عما تقدم ، متعلق به ، وما قبله خاص ، ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ } [ النساء : 20 ] عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها - نقول : هذا باطل وفاسد ، لأن مورد الآية في إرادته ، هو فراقها مبتدئاً ، فلا يصدق على المختلعة ، لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداء من جانب الزوج ، وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين على أن كلا في حكم على حدة ، لا تعلق فيها له بالآخر ، والنسخ لا يصار إليه بالرأي ، وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قويّ ، بل لما يتراءى ظاهراً بلا إمعان ، فتثبت هذا . وفي الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنَيْنِ ، بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم إن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ " قالها ثلاثاً . فقال الرجل : يا رسول الله : مالي ؟ يعني ما أصدقها ، قال : لا مال لك ، إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها " وفي سنن أبي داود وغيره ، عن بصرة بن أكثم " أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها ، فإذا هي حامل من الزنا ، فأتى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فذكر ذلك له : فقضى لها بالصداق وفرق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : " الولد عبد لك ، والصداق في مقابلة البضع " " . ثم بين تعالى من يحرم نكاحهن من النساء ، ومن لا يحرم ، فقال سبحانه : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ … } .