Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 60-61)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } يعني : القرآن { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني التوراة . ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله لتأكيد العجيب من حالهم وتشديد التوبيخ والاستقباح ، ببيان كمال المباينة بين دعواهم المقتضية حتماً للتحاكم إلى الرسول ، وبين ما صدر عنهم من مخالفة الأمر المحتوم . { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ } الداعي إلى الطغيان بالحكم على خلاف المنزل إليك والمنزل على من قبلك ، وتقدم قريباً معاني الطاغوت ، والمراد به ههنا ما سوى كتاب الله وسنة رسوله ، من الباطل { وَقَدْ أُمِرُوۤاْ } في جميع تلك الكتب { أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } أي : يتبرؤوا منه ، لأنه تحاكم على خلاف ما أنزل الله في كتبه فيعصونه ويطيعون الشيطان { وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ } أي : من الجن والإنس { أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } عن الحق والهدى ، وقوله : { وَيُرِيدُ } إلخ عطف على { يُرِيدُونَ } داخل في حكم التعجيب ، فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم ، أعجب من كل عجيب . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي : إلى حكم ما أنزل الله في القرآن الذي تدعون الإيمان به : { وَإِلَى ٱلرَّسُولِ } أي : حكمه { رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ } أي : يمنعون خصومهم فيبعدونهم { عَنكَ صُدُوداً } بليغاً ليتمكنوا مما يريدونه بالرشوة ، وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ } إلخ تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله ، إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت ، وإظهار { ٱلْمُنَٰفِقِينَ } في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق ، وذمهم به ، والإشعار بعلة الحكم . تنبيه في سبب نزولها أخرج ابن أبي حاتم والطبرانيّ بسند صحيح عن ابن عباس قال : كان أبو برزة الأسلميّ كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ } - إلى قوله - { إِلاَّ إِحْسَٰناً وَتَوْفِيقاً } . أقول : ثم أسلم أبو برزة وصحب النبي صلى الله عليه وسلم ، واسمه نضلة بن عبيد . قال الحافظ ابن حجر في ( التقريب ) : صحابيّ مشهور بكنيته ، أسلم قبل الفتح ، وغزا سبع غزوات ، ثم نزل البصرة ، وغزا خراسان ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح . انتهى . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة ، أو سعيد ، عن ابن عباس قال : كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وَبشَرٌ يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين ، في خصومة كانت بينهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فدعوهم إلى الكهان ، حكام الجاهلية ، فأنزل الله فيهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ … } الآية . وأخرج ابن جرير عن الشعبيّ قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهوديّ : أحاكمك إلى أهل دينك ، أو قال : إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد علم أن لا يأخذ الرشوة في الحكم ، فاختلفا ، واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة ، فنزلت ، وَلاَ تَعَارُضَ ، لما أسلفناه في المقدمة في بحث سبب النزول ، فتذكر . قال أبو مسلم الأصفهانيّ : ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقاً من أهل الكتاب ، مثل : إنه كان يهودياً فأظهر الإسلام على سبيل النفاق ، لأن قوله تعالى : { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } إنما يليق بمثل هذا المنافق . انتهى . أقول : ما استظهره مناف لما أسلفناه مما روي في نزولها ، على أن توصيفهم بالإيمان بـ { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } لا يؤيد ما ذكره ، لأن هذا كثيراً ما يذكر تنويهاً به وتثبيتاً لركنيته في الإيمان ، وتذكيراً له ، كما لا يخفى على من سبر قاعدة التنزيل في أمثاله ، فاعرفه . مباحث الأول : قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك ، يريد أن يتحاكم ، في فصل الخصومات ، إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذُكِر في سبب نزول هذه الآية ، ثم ساق ما قدمناه وقال : الآية أعم في ذلك كله ، فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بـ ( الطاغوت ) ههنا ، واعرضوا كالمستكبرين كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا … } [ النور : 51 ] الآية . الثاني : قال القاضي : يجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر ، وعدمُ الرضا بحكم محمد صلى الله عليه وسلم كفر ، ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى قال : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون إيماناً به ، ولا شك أن الإيمان بالطاغوت كفر بالله ، كما أن الكفر بالطاغوت إيمان بالله . الثاني : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] إلى قوله : { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم . الثالث : قوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة ، وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئاً من أوامر الله ، أو أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام ، سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد ، وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة إليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريّهم ، نقله الرازي . قال بعض المفسرين : في هذه الآية وجوب الرضا بقضاء الله سبحانه ، والرضا بما شرعه ، وتدل على أنه لا يجوز التحاكم إلى غير شريعة الإسلام . قال الحاكم : وتدل على أن من لم يرض بحكمه كَفَرَ ، وما ورد من فعل عمر وقتله المنافق يدل على أن دمه هدر ، لا قصاص فيه ولا دية . وههنا فرع ، وهو أن يقال : إذا تحاكم رجلان في أمر فرضي أحدهما بحكم المسلمين وأبى الثاني ، وطلب المحاكمة إلى حاكم الملاحدة ، فإنه يكفر ، لأن في ذلك رضا بشعار الكفرة . انتهى . الرابع : في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ } دقيقة بديعة ، قال أبو السعود : الاقتصار في معرض التعجب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم ، دون نفسه ، مع وقوعه أيضاً - للتنبيه على أن إرادته مما يقضي منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع ، فما ظنك بنفسه ؟ الخامس : قال المفسرون : إنما صد المنافقون عن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا ظالمين ، وعلموا أنه لا يأخذ الرشا ، وأنه لا يحكم إلا بمرّ الحكم ، وقيل : كان ذلك الصدّ لعدواتهم في الدين ، وقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ … } .