Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 10-16)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي : انتظر لمجازاتهم ذلك اليوم الهائل ، ولا يستعمل ( الارتقاب ) إلا في أمر مكروه . وللسلف في معنى الدخان ثلاثة أوجه : الأول : قال بعضهم : كان ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش أن يؤخذوا بسنين كسنين يوسف ، فأخذوا بالمجاعة . قالوا : وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذ في أبصارهم من شدة الجوع ، من الظلمة كهيئة الدخان ، روى ابن جرير عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا وهو مضطجع بيننا . فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إن قاصاً عند أبواب كندة يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار ، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام . فقام عبد الله وجلس وهو غضبان ، فقال : يا أيها الناس ، اتقوا الله . فمن علم شيئاً فليقل بما يعلم , ومن لا يعلم فليقل : ( الله أعلم ) . فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم : ( الله أعلم ) وما على أحدكم أن يقول لما لا يعلم ( لا أعلم ) فإن الله عز وجل يقول لنبيّه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً قال : " اللهم سبعاً كسبع يوسف " فأخذتهم سَنَةٌ حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف . ينظر أحدهم إلى السماء فيرى دخانا ، من الجوع . فأتاه أبو سفيان بن حرب فقال : يا محمد ، إنك جئت تأمرنا بالطاعة وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم . قال الله عز وجل : { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ، إلى قوله : { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } [ الدخان : 15 ] ، قال : فكشف عنهم : { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [ الدخان : 16 ] فالبطشة يوم بدر . وقد مضت آية الروم وآية الدخان ، والبطشة واللزام . قال ابن كثير : وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده وهو عند الترمذيّ والنسائيّ في تفسيرهما ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة وقد وافق ابنَ مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى جماعةٌ من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعيّ والضحاك وعطية العوفيّ ، وهو اختيار ابن جرير . { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي : كيف لهم بالتذكر ، وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة . ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه . بل كذبوه وقالوا معلّم مجنون . وهذا كقوله جلت عظمته : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [ الفجر : 23 ] الآية . وكقوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ سبأ : 51 ] . إلى آخر السورة . { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } يحتمل معنيين : أحدهما : أنه يقول تعالى : ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب . كقوله تعالى : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ المؤمنون : 75 ] ، وكقوله جلت عظمته : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] والثاني : أن يكون المراد إنا مؤخروا العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم . كقوله تعالى : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [ يونس : 98 ] ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم . بل كانوا قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى ، إخباراً عن شعيب عليه السلام ، أنه قال لقومه حين قالوا : { لَنُخْرِجَنَّكَ يٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } [ الأعراف : 88 - 89 ] وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم . وقال قتادة : { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } إلى عذاب الله . { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } فسرّ ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر . وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفيّ عنه . وعن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه وجماعة عنه وهو محتمل . والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً . قال ابن جرير : حدثني يعقوب . حدثنا ابن علية . حدثنا خالد الحذّاء عن عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال ابن مسعود رضي الله عنه : البطشة الكبرى يوم بدر . وأنا أقول هي يوم القيامة . وهذا إسناد صحيح عنه . وبه يقول الحسن البصريّ وعكرمة في أصح الروايتين عنه . والله أعلم . انتهى كلام ابن كثير . فصل وممن رجح الوجه الأول : وهو أن المراد بالدخان يوم المجاعة والشدة مجازاً ، بذكر المسبّب وإرادة السبب . أو بالاستعارة ، العلامة أبو السعود حيث قال : والأول هو الذي يستدعيه مساق النظم الكريم قطعاً . فإن قوله تعالى : وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ إلخ ، ردّ لكلامهم ، واستدعائهم الكشف ، وتكذيب لهم في الوعد بالإيمان ، المنبئ عن التذكر والاتعاظ بما اعتراهم من الداهية ، أي : كيف يتذكرون ؟ أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم ؟ { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } أي : والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر ، وموجبات الاتّعاظ ما هو أعظم منه في إيجابها . حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، وبيّن لهم مناهج الحق ، بإظهار آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صمّ الجبال { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } عن ذلك الرسول وهو هو ، ريثما يشاهدون منه ما شاهدوه من العظائم الموجبة للإقبال عليه ، ولم يقتنعوا بالتولي { وَقَالُواْ } في حقه { مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي : قالوا تارة : يعلّمه غلام أعجمي لبعض ثقيف . وأخرى مجنون ، أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا . فهل يتوقع من قوم هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير ؟ وما مثلهم إلا كمثل الكلب إذا جاع ضعف ، وإذا شبع طغى . وقوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } جواب من جهته تعالى عن قولهم : { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } بطريق الالتفات ، لمزيد التوبيخ والتهديد ، وما بينهما اعتراض . أي : إنا نكشف العذاب المعهود عنكم كشفاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً . إنكم تعودون إثر ذلك إلى ما كنتم عليه من العتوّ والإصرار على الكفر ، وتنسون هذه الحالة ، وفائدة التقييد بقوله : { قَلِيلاً } الدلالة على زيادة خبثهم ؛ لأنهم إذا عادوا قبل تمام الانكشاف ، كانوا بعده أسرع إلى العود . وصيغة الفاعل في الفعلين ، للدلالة على تحققهما لا محالة ، ولقد وقع كلاهما حيث كشفه الله تعالى ، بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم فما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه من العتوّ والعناد . انتهى ما قاله أبو السعود بزيادة . فصل وأما الوجه الثالث في الآية ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا ابن مهيعة ، حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل : { يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } قال : كان يوم فتح مكة . قال ابن كثير : وهذا القول غريب جداً . بل منكر . انتهى . أي لأنه لم يروَ مرفوعاً ولا موقوفاً على ابن عباس ، ترجمان القرآن ، أو غيره من الصحب ، إلا أن عدم كونه مأثوراً لا ينافي احتمال لفظ الآية له ، وصدقها عليه ، لا سيما ، ويؤيده قوله تعالى في آخر السورة : { فَٱرْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } [ الدخان : 59 ] مما هو وعد بظهوره عليهم ، وكان ذلك يوم الفتح . وحينئذ ، فمعنى قوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ } أي : ما ينزل بهم يومئذ ، برفع القتل والأسر عنهم . ومعنى : { عَآئِدُونَ } أي : إلى لقاء الله ومجازاته . فصل يظهر مما نقلناه عن السلف في هذه الآية من الأقوال الثلاثة ، أن هذه الآية من الآي اللاتي أخذت من الصحب ، عليهم الرضوان ، اهتماماً في معناها ، وعناية في البحث عن المراد منها . حتى كان ابن مسعود مصراً على وجه ، وعليّ وابن عباس وحذيفة على وجهٍ آخر . على ما أسند عنهم من طرق ، ولعمر الحق ! إن هذه الآية لجديرة بزيادة العناية . وهكذا كل ما كان من معارك الأنظار للأئمة الكبار . وسبب الاختلاف هو إيجاز الأسلوب الكريم ، وإيثاره من الألفاظ أرقها ، وأوجزها . مما يصدق لبلاغته حقيقة تارة ومجازاً أخرى . هذا أولاً . وثانياً ، لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات ، كان ذلك مما يقرب بينهما ، ويدعو إلى اتحاد المراد منهما . لما تقرر من شرح السنة للكتاب ، وهذا ما درج عليه المحدّثون قاطبة . فترى أحدهم إذا رأى في خبر ما يشير إلى آية ، قطع بأنه تفسيرها ووقف عنده ولم يتعده . وأما من فتح للتدبر بابا ومهد للنظر مجالا ورأى أن الأثر قد يكون من محمولات الآية وما صدقاتها ، وأنها أعم وأشمل ؛ أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه . فذاك وسّع للسالك المسالك ، وفتح للمريد المدارك ، ورقاه من حظيره النقل إلى فضاء العقل . ولكلٍّ وجهة . إذا علمت ذلك ، رأيت أن من فسر هذه الآية بالمجاعة التي حصلت لقريش ، أمكنه تطبيق الآية عليها مجازاً في بعض مفرداتها ، وحقيقة في بقيتها وفي وقوع مصداقها ، في رأيه . ومن فسرها بالدخان المنتظر ، المرويّ من أشراط الساعة ، وقف مع المرويّ ورأى أنه تفسيرها ؛ لأن الأصل التوافق والحمل على المعهود ؛ لأنه الأقرب خطورا والأسبق حضورا ، ومن فسرها بالظهور عليهم يوم الفتح ، رأى أنها من بليغ المجاوز وبديع الكناية في ذلك ، وأن الوعد بالارتقاب . كثر أشباهه ونظائره في غير ما آية ، مراداً به الفتح . كآية : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ ٱلْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَٱنتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } [ السجدة : 28 - 30 ] فهذا وأمثاله يبين مآخذ الأئمة ومداركهم في التأويل . وبه يعلم أن أطراف المدارك قد تتجاذب اللفظ فتستوقف الرأي عن التشيع لمدرك دون آخر . ما لم يكن ثمة ما يرشح أحدها وقد يظن الواقف على كلام الرازيّ المتقدّم ، واحتجاجه للوجه الثاني بما أطال به ، أن لا منتدح ، بعد ، عنه . مع أن للذاهب إلى غيره أن يجيب عن احتجاجه بما أسلفنا من صحة المجاز . بل وقوّته هنا ؛ لأن المقام مقام إنذار وإيعاد . والذوق أكبر حاكم وإليه مردّ البلاغة . ولا يلزم المتأوّلَ نكرانهُ للدخان المنتظر . كما قد يتوهم . بل يعترف بأنه آية آتية يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وينقلب هذا النظام إلى نشأة ثانية ، وأنه لا يلزم من الاشتراك اللفظيّ اتحاد المتلوّ والمرويّ . وبالجملة ، فاللفظ الكريم يتناول المعاني الثلاثة . وسببه تحقق مصداق الجميع . وأما تعيين واحد منها للمراد ، فصعب جداً فيما أراه ، لا سيما ولم يتفق الصحب على رأي فيها . هذا ما نقوله الآن . والله العليم .