Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 4-4)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد ، الصادّين ، عن منهج الرشاد ، وبعثاً على الصدق في قتالهم ، كسحاً لعقبة باطلهم ، عملاً بما يوجبه الإيمان ويفرضه الإيقان ، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان ، تأثر تلك الطليعة بهذه الجملة . ولذا قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها ؛ فإن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم ، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم ، مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام ؛ أي : فإذا كان الأمر كما ذكر ، فإذا لقيتموهم في المحاربة ، فضرب الرقاب . وأصله : فأضربوا الرقاب ضرباً . فحذف الفعل ، وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافاً إلى المفعول . وفيه اختصار وتأكيد بليغ . والتعبير به عن القتل ، تصوير له بأشنع صورة ، وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه . { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي : غلبتموهم ، وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } بفتح الواو ، وقرئ بكسرها . وهو ما يوثق به ، أي : يربط ويشد ، كالقيد والحبل . أي : فأمسكوهم به كيلاً يقتلوكم فيهربوا منكم : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } أي : فإما تمنون بعد ذلك عليهم ، فتطلقونهم بغير عوض ، لزوال سبعيّتهم ، وإما تفدون فداءً ، فتطلقونهم بعوض مال ، أو مسلم أسروه فيتقوى به المسلمون ، أو يتخلص أسيرهم . قال المهايميّ : ولم يذكر القتل اكتفاء بما مر من قوله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنفال : 67 ] وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السبعية بالكمال ، ولم يذكر الاسترقاق ؛ لأنه في معنى استدامة الأسر ، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبعية ، ولا تزالوا كذلك : { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : إلى انقضاء الحرب . و ( الأوزار ) كالأحمال وزناً ومعنى ، استعير لآلات الحرب التي لا تقوم إلا بها ، استعارة تصريحية أو مكنية ، بتشبيهها بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره ، وأثبت له ذلك تخييلاً ، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى : @ وأعددتَ للحرب أوزارَها رماحاً طِوالاً وخيلاً ذُكُورًا @@ وقيل : أوزارها : آثامها . يعني : حتى يترك أهل الحرب - وهم المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا . تنبيهات الأول : قال في ( الإكليل ) : في الآية بيان كيفية الجهاد . الثاني : للسلف قولان في أن الآية : منسوخة أو محكمة . فروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّيّ أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] قالوا : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم . وروي عن ابن عمر وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز ، أن الآية محكمة ليست بمنسوخة ، وأنه لا يجوز قتل الأسير ، وإنما له المن أو الفداء . ووجه من ذهب إلى الأول تعارض الآيتين عنده بادئ بدء ، فلم يبق إلا القول بإحداهما وهي المطلقة . ومدرك الثاني أن الأمر بقتلهم المجمل في آيات ، محمول على المفصل في مثل هذه الآية ، أي : إن القتل عند اللقاء ، ثم بعد انقضاء الحرب المن أو الفداء لا غير ، إلا أن تبدو مصلحة في القتل ، فتلك من باب آخر . وثم قول ثالث : وهو كون الآية محكمة مع تفويض الأمر إلى الإمام ، وأن ذكر المن والفداء لا ينافي جواز القتل ، لعلمه من آيات أخر ، لا سيما ومرجع الأمر إلى المصلحة . وهذا القول هو الذي أختاره ، وإذا دار الأمر في الآي بين الإحكام والنسخ ، فالأول هو المرجح . وقد لا يتعارض قول من قال بالنسخ مع الذاهب إلى الأحكام ، لما قدمناه في مقدمة التفسير ، من تغاير اصطلاح السلف والأصوليين في النسخ . ثم رأيت ابن جرير سبقني في ترجيح ذلك ، وعبارته : والصواب من القول عندنا في ذلك ، أن هذه الآية محكمة غير منسوخة . وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ، أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكوراً في هذه الآية ؛ لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله تعالى : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] الآية . بل ذلك كذلك ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيراً في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضاً ، ويفادي ببعض ، ويمن على بعض ، مثل يوم بدر : قتل عقبة بن أبي معيط ، وقد أتي به أسيراً . وقتل بني قريظة وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلماً ، وهو على فدائهم والمنّ عليهم قادر ، وفادى بجماعة ، أسارى المشركين الذين أسروا ببدر ، ومنَّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ ، وهو أسير في يده . ولم يزل ذلك ثابتاً من سيره في أهل الحرب ، من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائماً ذلك فيهم . وإنما ذكر جل ثناؤه في هذه الآية المنَّ والفداء في الأسارى ، فخص ذكرهما فيها ؛ لأن الأمر بقتلهم والإذن منه بذلك ، قد كان تقدم في سائر أي : تنزيله مكرراً ، فأعلَمَ نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المن والفداء ، ما له فيهم مع القتل . انتهى كلام ابن جرير . الثالث : من فوائد الآية أيضاً : جواز تخلية سبيل المشركين ، إذا ضعفت شوكتهم ، وأمنت مفسدتهم ؛ لأن ذلك من لوازم المن وقبول الفداء ، والقول بإبادة خضرائهم من غير تفصيل ، ينافيه نص هذه الآية ، وقبول النبيّ صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر وهم مشركون ، فتفهّم . وبالجملة ، فالذي عول عليه الأئمة المحققون رضي الله عنهم ، أن الأمير يخيّر ، بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في الأسراء المقاتلين ، بين قتال واسترقاق ، ومنّ وفداء . ويجب عليه اختيار الأصلح للمسلمين ؛ لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر ، فلم يجز له ترك ما فيه الحظ ، كوليّ اليتيم ؛ لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى . فإن منهم من له قوة ونكاية في المسلمين ، فقتله أصلح . ومنهم الضعيف ذو المال الكثير ، ففداؤه أصلح ، ومنهم حسن الرأي في المسلمين ، يرجى إسلامه ، فالمنّ عليه أولى ، ومن ينتفع بخدمته ، ويؤمن شرّه ، استرقاقه أصلح - كما في ( شرح الإقناع ) . الرابع : تُسَنُّ دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال لمن بلغته الدعوة ، قطعاً لحجته . ويحرم القتال قبلها لمن لم تبلغه الدعوة ، لحديث بُرَيْدَة بن الحُصَيْب قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش ، أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ، وبمن معه من المسلمين . وقال : " إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث ، فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم : ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، فإن هم أبوا فادعهم إعطاء الجزية ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " رواه مسلم . وقيد الإمام ابن القيّم وجوب الدعوة واستحبابها ، بما قصدهم المسلمون . أما إذا كان الكفار قاصدين المسلمين بالقتال ، فللمسلمين قتالهم من غير دعوة ، دفعاً عن نفوسهم ، وحريمهم وأمرُ الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ؛ لأنه أعرف بحال الناس ، وبحال العدوّ ، ونكايتهم وقربهم وبعدهم - كما في ( شرح الإقناع ) . وقوله تعالى : { ذَلِكَ } خبر لمحذوف . أي : الأمر ذلك . أو مفعول لمقدّر { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي : لانتقم منهم بعقوبة عاجلة ، وكفاكم ذلك كله . { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين فيثيبهم ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم ، حتى ينيب إلى الحق { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ } أي : استشهدوا . وقرئ ( قاتلوا ) { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } .